بعد قمة دمشق: لبنان هو معيار المرحلة العربية المقبلة

TT

الآن وبعدما انتهت قمة دمشق، التي انعقدت في موعدها ومكانها بشق الأنفس والتي قال عنها الذين استضافوها أن مجرد انعقادها يعتبر نجاحاً لهم ولها، لا بد من استعراض حقيقة ما جرى للتأكد من طبيعة النتائج التي تحققت وهل فعلاً أنها كانت قمة تضامن ولمُّ شملٍ أم أنها زادت الطين بلَّة وأنها رسخت الفرقة وعمقت الشرخ وجعلت عملية رأب الصدع على المدى القريب، على الأقل، غير ممكنة بل وشبه مستحيلة..؟!

البيان الختامي لهذه القمة، التي وصفها البعض بأنها كانت نصف قمة، تضمن ثلاث نقاط رئيسية جاءت كلها مكررة ومنزوعة الدسم وبدون أي جديد ويغلب عليها موقف اللاَّموقف هي:

أولاً، إعادة «تقييم» مبادرة السلام العربية في موعد أقصاه مايو (أيار) المقبل مع التأكيد على أن التمسك بطرح هذه المبادرة مرتبط بوفاء إسرائيل بالتزاماتها في إطار المرجعيات الدولية.

ثانياً، الالتزام بالمبادرة العربية لحل الأزمة اللبنانية ودعوة القيادات السياسية إلى إنجاز انتخاب المرشح التوافقي العماد ميشال سليمان في الموعد المقرر!! والاتفاق على أسس تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في أسرع وقت ممكن.

ثالثاً، التمسك بوحدة وسيادة واستقلال العراق ورفض أي دعاوى لتقسيمه مع التأكيد على عدم التدخل في شؤونه الداخلية وعلى ضرورة «حل مختلف الميليشيات بدون استثناء وتسريع بناء وتأهيل القوات العسكرية والأمنية العراقية على أسس وطنية ومهنية وصولاً إلى خروج القوات الأجنبية».

إن هذه هي النقاط الرئيسية التي تضمنها بيان قمة «التضامن» التي قاطعها لبنان وحضرتها نحو نصف الدول العربية بمستويات منخفضة ثم وحسب بعض المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام فإن هناك بعض الاتفاقات الجانبية التي لم يتضمنها البيان الختامي ولم يشر إليها ومن بينها أنه تم تكليف العقيد معمر القذافي للتباحث مع إيران حول إحالة ملف الجزر الإماراتية الثلاث (المحتلة) للتحكيم الدولي وأن الرئيس السوداني عمر البشير اقترح على المؤتمرين تشكيل لجنة لتنقية الأجواء العربية لكن اقتراحه لم يستقبل بأي حماس.

فماذا حصل بعد صدور هذا البيان الذي ينطبق عليه المثل القائل «وفسَّر الماء بعد الجهد بالماء»؟!

ما أن ورد ذكر الجزر الإماراتية الثلاث حتى انتفض وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي، الذي وُصف بأنه كان نجم هذه القمة العربية وأنه حضر حتى جلساتها السرية التي اقتصرت على الزعماء والقادة ورؤساء الوفود، وقال بأسلوب يفتقر إلى الحد الأدنى من الدبلوماسية: «إن هذه الجزر هي جزر إيرانية وليست إماراتية». والمحزن فعلاً أن عـرب قمة «الممانعة والمقاومة» لم يصدر عنهم أي ردٍّ وأي اعتراض على ما قاله هذا المسؤول الإيراني الذي كان من المفترض أن يكون أكثر لياقة وكياسة في كلامه على اعتبار أنه مجرد ضيف على مؤتمر عربي.

على صعيد الأزمة اللبنانية واعتراضاً على ما تضمنه البيان الختامي الذي دعا لانتخاب رئيسٍ لبناني توافقي (دون إبطاء) على أساس الالتزام بالمبادرة العربية سارع وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى القول إنه جرى تحريف هذه المبادرة وهذا يؤكد أن سوريا رغم الكلام الناعم الذي رددته خلال هذه القمة مستمرة في إعاقة انتخاب رئيس لبناني جديد ومستمرة في إغراق لبنان بالفراغ الذي يغرق فيه الآن إن على مستوى رئاسة الجمهورية وإن على مستوى السلطة التشريعية (البرلمان).

إن هذا هو ملخص ما جرى في هذه القمة التي يصرُّ «المضيفون» على أن مجرد انعقادها يعتبر نجاحاً لهم والتي يبدو أن أروقتها وكواليسها قد شهدت لفلفة قضية اختفاء الإمام موسى الصدر ومعه مرافقاه خلال زيارة للجماهيرية الليبية قبل عشرين عاماً وهذا ما جعل العقيد معمر القذافي الأكثر حماساً للانفتاح على إيران والتغاضي نهائياً عن تدخلها السافر في العراق وفي لبنان وفي شؤون عربية أخرى كثيرة واحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث.

والحقيقة، وهذا هو مربط الفرس كما يقال، أن دمشق سعت وفي وقت مبكر جداً إلى أن تكون هذه القمة قمة فرز بين اتجاهين عربيين الأول هو اتجاه تحالفها مع إيران على حساب علاقاتها العربية الذي لا تزال تعتبره «فسطاط الممانعة والمقاومة» والثاني هو إتجاه «الدول المعتدلة» .. المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والذي تعتبره إتجاهاً «تفريطيّاً»!! ومرتبطاً بالولايات المتحدة ولذلك فإنها بادرت إلى الترويج مبكراً إلى أن خفض مستوى تمثيل هذه الدول في هذه القمة قد جاء استجابة للرغبة الأميركية!!

وهنا فإنه يمكن القول إنه لو كانت هناك «أوامر» أميركية بهذا الخصوص بالفعل فإنه ما كان من الممكن أن يحضر هذه القمة على مستوى القادة حتى نصف العدد الذي حضرها وأنه لو أن دول محور الاعتدال تستجيب للرغبات الأميركية وتستقبلها كتعليمات وأوامر فلما رعت المملكة العربية السعودية اتفاقية مكة المكرمة بين حركة فتح وحركة حماس ولما فتحت مصر حدودها أمام أهل غزة في تلك الحادثة المعروفة ولما قام العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بزيارته الأخيرة إلى دمشق التي لم يكن الأميركيون يريدونها وكانوا غير راضين عنها ولما جاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) لحضور هذه القمة الدمشقية بنفسه.

لقد كان المفترض أن تكون القيادة السورية في فترة الإعداد لهذه القمة سمحة ومتسامحة وغير متوترة ولا متعالية، كما حاولت أن تكون خلال انعقادها، لو أنها لم تكن عازمة على «الفرز» وإظهار أن سوريا وإيران ومن يقبل بالالتحاق بهما بدون سؤال ولا جواب تشكل محور المواجهة والمقاومة والصمود بينما الآخرون يشكلون المحور الآخر «المفرّط» والتابع للولايات المتحدة الأميركية.

لقد أرادت سوريا أن تكون هذه القمة قمة فرز بين تيار وتيار ومحور ومحور ولذلك فإنها وجهت الدعوة التي وجهتها إلى المملكة العربية السعودية بإسلوب غير لائق وغير مقبول ولذلك أيضاً فإنها بدأت بالترويج على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم وفي وقت مبكر لـ«سيناريو» أن أميركا لا تريد انعقاد هذه القمة العربية في دمشق وأنها أعطت أوامر لحلفائها بأن يحضروا بتمثيل منخفض المستوى إذا كان لا بد من الحضور.

والآن وقد انعقدت هذه القمة وأصدرت هذا البيان الذي أصدرته وأصبح الرئيس بشار الأسد رئيساً للعرب وللجامعة العربية لسنة كاملة والى حين انعقاد القمة المقبلة بعد عام فإن السؤال المتداول حالياً هو : هل أن سوريا ستستمر بالسير على الطريق التي كانت تسير عليه وأنها ستبقى تغلب تحالفها مع إيران على علاقاتها مع العرب أم أنها ستعيد النظر بحساباتها وسياساتها وتنتقل من دائرتها القديمة إلى دائرة جديدة وتحول القمة الدمشقية الأخيرة مـن قمة «فرز» واستقطاب إلى قمة تضامن ولمُّ شمل..؟!

إن كل المؤشرات والمعطيات تشير إلى عكس هذا ولذلك فإن الاحتمال الأغلب هو أن أيام لبنان المقبلة ستكون أكثر سواداً من أيامه الماضية وأن التشظي العربي سيزداد بؤساً ومأساوية وأن قمة دمشق التي هي أول قمة عربية تستضيفها سوريا قد تصبح القمة العربية الأخيرة!!