الدولة والسلاح

TT

الدولة هي المحتكر الوحيد للعنف، هذه هي القاعدة التي لا تنازل عنها ولا فصال فيها إذ بغيرها تنهار الدولة أو تكون عرضة للانهيار أو في طريقها فعلا إلى الفوضى التي لا يحكمها حاكم أو يربطها رابط وبذلك يكون وجود تشكيل مسلح داخل الدولة ليس تابعا لها ليس إلا لغما زرع تحتها تنتظر الناس لحظة انفجاره محولا إياها إلى شظايا وأهلها إلى مخلوقات تعسة باحثة عن حماية أو حتى عن فرصة تبقيهم على قيد الحياة، وإلى أن يحدث هذا الانفجار أو في انتظار حدوثه يصاب القائمون على الدولة بالشلل الذي يعجزهم عن القيام بمهامهم إلى أن يصل بهم الأمر في مثال لبنان إلى عجزهم عن اختيار رئيس لهم.

السلاح إذن حق أصيل من حقوق الدولة لا يشاركها فيه أحد، لا أحد من حقه أن يحمل سلاحا إلا تشكيلات الدولة أو من ترخص له الدولة بذلك وهو عادة يكون سلاحا شخصيا لحماية النفس في ظروف خاصة تستدعي ذلك. والسلاح لا ينبت في الأرض كالنباتات البرية بل هو يصنع في مصانع وتدفع في مقابله فلوس، وبالتأكيد هو لا يمر على الجمارك والمنافذ الشرعية للدولة بل يتم تهريبه عبر شبكات معقدة كغيره من الممنوعات. هي عملية مكلفة إذن وفي حاجة إلى مستوى عال من الانضباط وهو ما لا تستطيعه إلا دولة أخرى بأموالها وأجهزتها السرية والأمنية والمعلوماتية. وبذلك تكون التشكيلات المسلحة غير الشرعية في دولة ما تابعة حتما لدولة أخرى، ولما كانت هذه الدولة الأخرى هي من يدفع فواتير السلاح وكلفة التدريب عليها، بالإضافة بالطبع إلى مبالغ الإعاشة لأشخاص هؤلاء المسلحين التي تبقيهم على قيد الحياة، لذلك كان من الطبيعي أن يدينوا بالولاء لها وتنفيذ أوامرها وتوجيهاتها مما يفقدهم بلا جدال ما نسميه بالإحساس الفطري بالوطنية.

هكذا يتحول الوطن في أذهانهم إلي مدفع رشاش وقطعة ديناميت وأوامر واجبة الطاعة من قائد التنظيم بالإضافة بالطبع إلى عدد من الدولارات الشهرية، ثم لا بأس بقطعة تغطية ضميرية مثل الشعار الديني أو العداء لأمريكا وإسرائيل.

نحن هنا إذن إزاء استعمار من نوع جديد يفتقر إلى شجاعة الوضوح عند الاستعمار القديم. هو احتلال باطني امتداد لمنهج باطني في التفكير إذا جاز التعبير، هو استعمار يعجز رجل السياسة المسؤول عن حشد الناس لمقاومته بسبب قدسية شعاراته، كما يعجز في مقاومته عن اللجوء للمنظمات الدولية لانعدام الأدلة أو لعدم كفايتها، هو استعمار أشبه بالمرض الخبيث الذي يتسلل إلى جسم الدولة ليقضي عليها ما لم تتنبه للإصابة به في مراحلها الأولى.

استنادا إلى هذا المنظور أقول إن المعارك الدائرة الآن بين الحكومة العراقية وبين التشكيلات المسلحة للسيد مقتدى الصدر، ليست إلا معركة بين الدولة العراقية وبين تشكيل مسلح فاقد للشرعية ويمثل استعمارا باطنيا، على الدولة أن تتخلص منه استكمالا لسيادتها، وهو أيضا ما يشكل الخطوة الأولى على طريق التخلص من الاحتلال الأجنبي.

إن وجود قيادة موحدة للدولة تتحكم في تشكيلاتها المسلحة وتفرض سلطة القانون على الشارع هو ما يعطيها الشرعية الكافية للتفاوض مع القوات الأجنبية على أرضها لإجلائها عن تراب الوطن بالشروط التي تراها ويراها معها المجتمع الدولي عادلة. أنصار البقاء في العراق من العسكريين والساسة الأمريكيين يقولون إنهم إذا انسحبوا من العراق فستحدث للشعب العراقي مذبحة كبرى، ربما يكون هذا صحيحا غير أن الأصح منه هو أن المذابح الصغيرة أو الكبيرة لا تحدث للناس إلا في غياب قوة الدولة وهذا هو بالضبط ما يجب أن نستعيده في بغداد.

هي إذن ليست حربا بين السيد المالكي والسيد مقتدى الصدر، بل هي معركة بين الدولة وبين تشكيل مسلح خارج عنها وعليها. هذا هو ما يجب على المثقف العربي أن يراه بوضوح بغض النظر عن موقفه من الحكومة العراقية أو ملاحظاته عليها، وبغض النظر عن موقفه من أمريكا وبقية دول الغرب المتحالفة معها هناك.

عندما تنعدم فرص العمل تقل فرص الحياة إلى حدها الأدنى، فلا يكون أمام البشر إلا تهيئة أنفسهم للموت وهو ما يوفره لهم بسخاء التنظيم الثوري المسلح الخارج عن الدولة.

يقودنا ذلك إلى الحديث عن البشر أعضاء هذه التنظيمات، بعد الترحم على الشهداء من الطرفين، وبعد إرسال المصابين من الطرفين أيضا إلى المستشفيات، تتبقى المهمة الكبرى، وهي: توفير فرص العمل للباقين، هذا هو بالضبط ما يجب أن تنشغل به الدولة.. التنمية الشاملة بأقل قدر من الفساد هي الضمانة الوحيدة لعدم وجود تنظيمات مسلحة يلتحق بها الفرد للحصول على قطعة سلاح وقطعة خبز.