من يلعب بنار الـ«فتنة»؟

TT

بعد أيام من عرضه على الانترنت، كان من العسير جداً العثور على فيلم «فتنة» الذي يهاجم القرآن، ويثير غضب المسلمين حول العالم. موقع «ليف ليك» الذي كان المبادر إلى عرضه (استقبل في اليوم الأول أربعة ملايين زائر) حجبه مؤقتاً «بسبب حقوق الناشر الذي يود ان يدخل عليه ثلاثة تعديلات قبل أن يعيده». وموقع آخر أسف لحجب الفيلم، بعد أن تلقى تهديدات بالقتل لموظفيه وطلب فتح حوار حول وجوب حماية حرية الرأي التي باتت مهددة، وثمة موقع ثالث أنذر من يحاول مشاهدة الفيلم بفيروسات تلتهم جهازه. وقبل ذلك كان موقع اميركي قد قرر حجب «فتنة» بسبب شكاوى الزوار، كما حجبت باكستان منذ ايام موقع «يوتيوب» بسبب تسجيل لصاحب الفيلم الهولندي المسيء للإسلام. وهي خطوات قد تبدو في ظاهرها، دلالات خير، خاصة وان الحكومة الهولندية كما الاتحاد الأوروبي والداخلية الأميركية والأمم المتحدة، كلهم ادانوا «فتنة» فيلدرز.

وقد لا تكون الاحتجاجات وحدها والتهديد بالقتل، هو ما ردع البعض عن تأييد «فتنة». فالفيلم خطير بما لا يقارن مع الرسوم الكاريكاتورية، بدليل ان رسام الكاريكاتور الدنماركي كيرت ويسترغارد تبرأ من الفيلم وادعى على صاحبه لأنه اقحم احد رسومه فيه، وسيستجاب له وينزع رسمه. وكان الرسام ابدى الكثير من الأسف على ما اثارته اعماله من غضب، ويمكننا ان نتصور بأن ثمة قصر نظر أوقعه في الفخ الذي كلفه غالياً. أما النائب الهولندي، فأمره مختلف. فهو رجل عنصري ومتطرف باعتراف مواطنيه، ورغم ان فيلمه يعتبر ساقطاً فنياً ومشهدياً، إلا ان تأثيره قد يكون مريعاً على مشاهد لا يعرف عن الإسلام غير ما يسمعه من غلواء. فالربط المباشر بالفيلم، بين آيات قرآنية بعينها تحث على استخدام القوة، وهجمات 11 سبتمبر والجثث التي تقشعر لها الأبدان، أمر خطير، ومثله خراب «مركز التجارة العالمي» الذي يخرج من صفحة قرآنية. وفي الفيلم بنت اسمها «بسم الله» وعمرها 3 سنوات ونصف، وتقول بالمصرية انها تكره اليهود «لأنهم قردة وخنازير»، فيما يقف شيخ غاضب على منبر، يستل سيفه ويصرخ بجنون بأنه سيقطع به رؤوس اليهود، ويردد جمع غفير حوله عبارات الجهاد الحماسية، كل هذا ليس مختلقاً بالتأكيد، لكنه ليس صادقاً ايضاً.

تشاهد هذا الفيلم، فتكتشف كم اننا في عصر يصعب فيه على الضعفاء أن يصمدوا. فقد استطاع هذا النائب المتطرف من تجميع مشاهد حقيقية كلها وإلصاقها ببعضها البعض، ووضعها ضمن سياق واحد، وتقديم فيلم قصير وغبي، فنياً، لكنه يستطيع ان يخترق وينتصر شعبياً. ولولا مكانة فيلدرز السياسية والضوضاء الذي يثيره حوله لما انتبه أحد للفيلم. فتحت عنوان «فتنة» وتعليقاً عليه بمقدورك ان تعثر على ما شئت من أفلام، الهجوم والأخذ والرد، ومع ذلك لا احد يغضب.

مليون مسلم في هولندا، وأكثر من أربعين مليونا في أوروبا وسط اغلبية مسيحية، يتزايدون بفضل التناسل بسرعة قياسية، قلة منهم تصل إلى الجامعة، إضافة إلى قطيعة مع العائلة التي تحمل تقاليد البلد الأصل. فوضى تجعل هؤلاء الشبان المهاجرين يضيعون بين الشرق والغرب، وبينهم من وصل به الاضطراب حد قتل المخرج الهولندي تيو فان غوغ الذي «اساء للإسلام». لكن قاتل المخرج أساء للمسلمين في هولندا منذ العام 2004 أكثر بعشرات المرات من المخرج الصريع نفسه. وبات هؤلاء موضع نقمة وشبهة، وجردوا من العديد من حقوقهم التي كانوا يتمتعون بها. والنتيجة أن نائبا متطرفاً مثل فيلدرز علاقته بالسينما مثل علاقة بن لادن بالأوبرا، يصبح صاحب فيلم تطبق شهرته الآفاق.

هناك تقرير مشوق يقول ان بوش أقنع الرأي العام الأميركي بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، بفضل الربط بينها وبين صور ضرب صدام لإسرائيل بصواريخ سكود خلال حرب الخليج الثانية، وتمكن البيت البيض أيضاً من اقناع المتفرج بوجود الأسلحة الكيميائية، حين ربط الكلام عنها بصور المجازر الرهيبة التي ارتكبت في حلبجا. وبالتالي فإن جعل الصورة الشرسة قرين الكلام الذي تريد، وأنت تمتلك سلطة إيصال رسالتك الملغومة، يجعلك في موقع القادر على الإقناع. والنائب المتعصب، رغم انه مخرج فاشل، بحسب المؤرخ والإعلامي الهولندي غيرت ماك، إلا انه وصل إلى مأربه «لأنه عرف كيف يتاجر بالمخاوف». وقد تتضح الصورة اكثر ونحن نستمع لعالم الاجتماع الهولندي بول شيفير وهو يشرح كيف «ان فيلدرز لم يكن ليصبح شيئاً مهماً لولا المتطرفين المسلمين، فهو بحاجة لهم وهم بحاجة اليه». هؤلاء الباحثون الهولنديون، وغيرهم في اوروبا قلقون من أجواء الدس والحقد، ويحذرون من التباس مفاهيم كثيرة. والحديث اليوم يدور عن خطورة الخلط بين مشاكل المهاجرين، وانحراف المراهقين منهم، والحجاب، والعنف في فلسطين، مع تطرف بن لادن، ووجود المقاومة إلى جانب الإرهاب في العراق. ملفات كثيرة كلها مرتبطة بالمسلمين، بالإمكان الفصل بينها، لكن ربطها وبالطريقة الاستغلالية التي نرى، بمقدوره ان ينجب خلطات عدوانية من الوزن المتفجر. حتى ان مسؤولاً في الشرطة الهولندية قال عشية وضع الفيلم على الانترنت ان «اي شيء يمكن ان يشتعل بلحظة. الشرطة متأهبة، والأمر كله متعلق بما ستبثه الأقنية الأجنبية ـ يقصد العربية ـ حول الفيلم».

لغاية كتابة هذه السطور، ردود الفعل لا تزال عقلانية، لولا التهديدات بالقتل التي لا نعرف مدى صحتها، وأمام المسلمين الغاضبين ما لا يحصى من الأساليب الاحتجاجية المؤثرة والذكية التي تسد الطريق على امثال فيلدرز لاستعمالها ذات يوم مصورة ضدهم. وعلى وعي المسلمين، وقدرتهم على بلورة ردود من جنس العمل، يترتب ليس فقط مصير الفيلم وحده، وإنما مصير أعمال أخرى لا بد ستبصر النور باستمرار ما دام الجنون سمة العصر. أما الأخطر، فهو ان «فتنة» موجه للأوروبيين لتحذيرهم من مخططات الإسلام للهيمنة عليهم. فقد جاء في الفيلم «عام 1945، انهزمت النازية في أوروبا. وعام 1989 انهزمت الشيوعية في أوروبا أيضاً. الآن على الإسلام أن يُهزم ويلغى... أوقفوا المد الإسلامي الذي يهدف إلى إلغاء مبدأ الحرية». كلام موجع، والرد عليه لا يكون بالتهديد بالقتل او مطاردة المخرج حتى إزهاق انفاسه، وإنما بالإثبات الواضح والصريح، اننا أمم حرة «فعلاً لا قولاً»، تميز بين الشتيمة المهينة والرأي الحر، وهذا إنجاز، لسوء الحظ، قد يحتاج منا دهراً.

[email protected]