ملاحظات حول تقييمات القمة

TT

لست أريد أن أدخل في السجال حول توصيف القمة العربية العشرين التي انعقدت في دمشق مؤخراً، مرة بأنها فاشلة ومرة بأنها ناجحة، فلست أعرف المعايير التي استندت إليها تلك التوصيفات التي يبدو لي أن الكثير منها يستجيب لاعتبارات شخصانية اعتمدت على مَن حضر ومَن لم يحضر. وعلى الرغم من أني شخصياً كنت قد أعربت في أكثر من مقام شفاهة وكتابة، عما كنت أؤمّل فيه من حضور جميع الزعماء لتتاح لهم فرصة لنقاش واسع وصريح حول المشاكل التي تتعرض لها الأمة العربية، وهو أمل لم يتحقق لأسباب قد نختلف حول كنهها، خاصة وأنها ليست واحدة عند الجميع، على الرغم من ذلك، فإن محاولة الحكم الموضوعي تقود إلى بعض الملاحظات الضرورية.

أولاها أن جميع الدول العربية ـ ما عدا لبنان ـ كانت ممثلة رسميا في المؤتمر، وبصرف النظر عن مستوى التمثيل، وهو قرار سيادي يرجع إلى أسباب من حق الزعماء أن يقدروها وفق رؤيتهم، فإنه مهما كانت شخصية الجالس على مقعد الدولة ـ نائبا للرئيس أو وزيرا أو سفيرا ـ فإن مواقفه ـ وفقا لأبسط قواعد القانون الدولي ـ تلزم دولته بصرف النظر عن أي اعتبار آخر. صحيح أن الأمر في الواقع والنتائج يختلف وفقاً لوزن الجالس على المقعد، لكن هذا لا ينفي أن مواقفه بالرفض أو الموافقة أو التحفظ أو الامتناع، مواقف تلزم دولته.

الملاحظة الثانية هي أنه يبدو لي أن عدد رؤساء الدول الذين حضروا، لم يختلف إلا قليلا عن متوسط الحضور في قمم أخرى. وقد لا أكون رجعت في ذلك إلى إحصائيات دقيقة، لكن يبقى مع ذلك مزيج من الأمل الذي لم يتحقق وخيبة الأمل لأنه لم يتحقق لأسباب أثق أنها كلها ترجع إلى اعتبارات وطنية وقومية قدّرها الزعماء بصرف النظر عن محاولات تشويش وتشويه وإيحاءات مغلوطة صدرت من عواصم بعيدة يبدو أنها تخصصت في محاولات الوقيعة كجزء من مخططات لا أظن أنه من الضروري تكرارها، فكلنا نعرفها ونعرف سوء النوايا التي تنطلق منها عابرة المحيط الأطلنطي لتنشر البلبلة.

ولا أريد أن أترك نقطة الحضور وعدم الحضور قبل أن أعرب عن أسفي لعدم حضور لبنان. ولا أريد أن أتحدث عن فرصة ذهبية أو غير ذهبية، لكنها كانت على أية حال فرصة، لكي تؤكد الحكومة اللبنانية أنها الممثل الشرعي المعترف به عربيا دون تحفظ، فقد وجهت إليها سوريا التي كانت تعتبرها حكومة غير شرعية، الدعوة رسميا للحضور، وهو موقف جديد يدعم في تقديري موقف تلك الحكومة. وقد قيل إن الدعوة سلمت إلى وزير مستقيل، والواقع أن استقالة هذا الوزير لم تقبل رسميا، بدليل أن الأخ العزيز الذي يباشر العمل كوزير للخارجية هو وزير بالإنابة، كما أن الوزير المستقيل يتوجه من وقت إلى آخر إلى مقر الوزارة، بل ويوقع قرارات إدارية تتعلق بتعيينات في ديوان عام الوزارة.

وأعتقد أن الإقرار الرسمي والعلني أمام العالم كله من جانب دمشق بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، كان سيشكل فيما أتصور خطوة هامة تفتح باباً ـ حتى إذا كان ضيقاً ـ للتحرك نحو تسوية لبنانية. وقد أكون مخطئا، لكن ألم يكن الأمر يستحق المحاولة، خاصة أن الحكومة اللبنانية كانت ستحظى داخل المؤتمر بمساندة من أطراف عربية فاعلة. وعلى ذكر التسوية اللبنانية، فمع ترحيبي بتأكيد المبادرة العربية وباستعداد الأمين العام لمواصلة جهوده المضنية، فقد طرحت مؤخراً خلال مناقشة تلفزيونية فكرة البدء بانتخاب رئيس الجمهورية الذي اتفق الجميع على اسمه، والذي يعرف الجميع أنه قريب من سوريا، أو على الأقل ليس بعيدا عنها، على أن يتم بعد ذلك النظر في تطبيق بقية البنود مع ضمان عربي بأن تحقيق الوحدة الوطنية سيضمن عدم قدرة أي طرف على إعاقة عملية إعادة بناء الكيان السياسي على أسس وطنية، وأن النظام الانتخابي سيكون قادرا على الاستجابة إلى الاعتبارات التي أثيرت لضمان حقوق جميع الأطراف في إطار وحدة وطنية حقيقية وفقاً لما كان قد تم الاتفاق عليه في الطائف.

والملاحظة الثالثة، هي أن بيانات وقرارات القمة لم تتضمن في الواقع جديداً، فهي كسابقاتها كررت مواقف لا نعرف ـ كما لم نكن نعرف بالنسبة لقمم أخرى ـ مدى القدرة على وضعها موضع التنفيذ. وإذا كان قد أضيف في بعض التصريحات إلى المبادرة العربية للسلام بعض تلميحات باحتمال سحبها، فإني لا أعرف مدى جدية هذا الأمر، فالمبادرة تبقى أوضح طرح شامل وواقعي لشروط التسوية العادلة والشاملة بعيداً عن متاهات خرائط الطريق الوهمية والجولات العاقرة لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين ممن يؤمنون فيما يبدو بمبدأ الحركة من أجل الحركة أو باستخدام مسكنات ما تلبث أن يتضح أنها ـ وفقا للتعبير الطبي ـ مجرد «بلاسيبو» أي حبوب لا تحتوي على أية مادة فاعلة تستخدم في تجارب طبية. وبالنسبة للعراق فقد صدر قرار تقليدي لم أفهم سبب تحفظ ممثل العراق عليه، إلا أنه كان يريد من الدول العربية أن يتبنوا سياسات أمريكية وعراقية خرقاء ملأت شوارع العراق بالدماء والدمار وأدخلت ذلك القطر العربي العزيز في متاهات الانقسامات الداخلية والفتن الطائفية والأطماع الخارجية.

والملاحظة الرابعة تتعلق بالقضية الفلسطينية.

ولم يغير ما حدث من حقيقة أن المطلوب قبل كل شيء هو استمرار بذل الجهود لإعادة اللحمة إلى الموقف الفلسطيني، ولأن تضع الأطراف الفلسطينية مصلحة الوطن (الذي ما زال يحاول الخروج من رحم أوضاع بالغة الصعوبة) قبل مصالح ضيقة ترتبط أحياناً، بمشاعر كبرياء مجروح، وأحياناً أخرى بمصالح خارجية تختلط بأهداف داخلية. ولقد كانت المحاولة الجادة التي قام بها رئيس اليمن للتوصل إلى مصالحة فلسطينية محاولة مشكورة، لكنها لم تستطع التوصل إلا إلى صياغة جرى تحميلها على أكثر من معنى، لأنها جاءت غامضة تتأرجح بين عودة الأمور إلى ما كانت عليه وبين إجراء حوار، مما أتاح الإفلات من الالتزامات التي كان المفترض أن تكون ملزمة للطرفين. وما زال تعبير عودة الأمور إلى ما كانت عليه، تعبيراً غامضاً وملتبساً، خاصة أنه يُراد به أن ينطبق على غزة فقط مع أن المنطقي أن ينطبق على كل الأوضاع الفلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية، لأنه من غير المنطقي إجبار طرف ـ مهما كانت أخطاؤه والمآخذ عليه ـ على أن يتنازل دون أن يكون هناك توازن بين شرعيتين أكيدتين لأنهما نبعتا من انتخابات حرة نزيهة. كما أن العودة إلى الأوضاع السابقة تشمل أيضا بالقطع تفويض رئيس السلطة الفلسطينية بالتفاوض مع إسرائيل على أن تعرض أية نتائج يتوصل إليها في استفتاء شعبي عام، وليس من شك في أن ذلك يقوي مركز المفاوض الفلسطيني بدلا من المفاوضات الحالية التي لم ولن تؤدي إلى نتيجة لأنها في الواقع لا تستهدف إلا كسب الوقت والوقيعة بين الأطراف الفلسطينية، بينما تستمر إسرائيل في ابتلاع الأرض الفلسطينية ببناء مزيد من المستعمرات، وفي العدوان والقتل والتهديد، تساندها في ذلك مواقف أمريكية تعبّر عنها زيارات متتالية في تتال غريب ومريب لمسؤولين أمريكيين. وليس أدل على الغرض الحقيقي من التحركات الإسرائيلية والأمريكية من التهديد الإسرائيلي بوقف أية مفاوضات إذا تم تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، بالإضافة إلى أمور أخرى لعل منها تزويد السلطة الفلسطينية «بأسلحة منزوعة السلاح»!!

لقد آن الأوان لكي يتحمل الفلسطينيون مسؤوليتهم الوطنية، وأن يساعدهم العرب جميعاً على تحقيق وحدتهم على أسس سليمة واضحة تقدم مصلحة الوطن على المصالح الضيقة، وتحمي القضية من تأثيرات خارجية غالباً ما تكون لها أهداف مشبوهة وهي أيضاً مكشوفة في جميع الأحوال بحيث لا يوجد عذر لمن يلدغ من جحورها مرات ومرات.