سلمان الابن: (التوحيد) مفتاح شخصية المؤسس ومنهج دولته

TT

الاستهلال: نقطتان. نحسبهما مدخلين موجزين: النقطة الأولى: انه لا بد ـ بين الحين والآخر ـ من مدافعة ضغط الأحداث المتلاحقة لكي نجد وقتا لـ (القضايا الفكرية)، وإلا جرّتنا الأحداث جرا مكرها إلى ما يهمل الشأن الفكري الذي ينبغي ان يظل هو الأصل والمنهج والأسبقية لسببين هما أولا: ان كل أمر في هذه الحياة مرده إلى (الفكر) في التحليل النهائي، سواء كان هذا الأمر سياسيا أو اقتصاديا أو إعلاميا أو اجتماعيا أو حضاريا.. والتأسيس (المعرفي) لازم ـ ها هنا ـ.. فمن مقاصد نزول آيات القرآن وحضها على التأمل في آيات الكون: (بناء الطاقة الفكرية) التي يتأسس عليها فهم الدين وفهم الحياة في مختلف مجالاتها:«كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون».. ولقد أدرك الفكر البشري ـ باجتهاده الإنساني ـ: أهمية الفكر ـ إيجابا وسلبا ـ في كل حقل وميدان.. يقول نورتون فريش ـ في كتابه: الفكر السياسي الأمريكي ـ:«وفهم الفكر السياسي الأمريكي، وقربه من الفلسفة السياسية في معناها الأشمل، يعني تجميع الملاحظات عن العلاقة بين الفلسفة السياسية وفن إدارة الدولة».. وينقل ايزيا برلين ـ في حدود الحرية ـ عن الشاعر الألماني (هاينة) قوله:«إن الأفكار الفلسفية التي يطرحها أستاذ من مكتبه الهادئ، قادرة على إبادة حضارة بكاملها».. ثانيا: السبب الثاني هو: ان القضايا الجارية كلها لا طعم لها ولا وزن ولا عمق إذا تجردت من (مضامينها الفكرية)، فإن التجرد يعني (التفاهة) عينها!!.. تلك هي النقطة المدخلية الأولى.. أما الثانية فهي أن موضوعنا هذا مرتبط بمناسبتين اثنتين: زمانية ومكانية.. أما الزمانية فهي انه في الحادي والعشرين من ربيع الأول 1429هـ (30 مارس 2008م) استضافت جامعة أم القرى أمير منطقة الرياض سلمان بن عبد العزيز لإلقاء محاضرة عن جوانب معينة من سيرة الملك عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ.. وأما المناسبة المكانية فهي: ان المحاضرة ألقيت في رحاب مكة المكرمة: أعظم بقاع الأرض بإطلاق، والتي حرمها الله يوم خلق السموات والأرض.

ومن أظهر محاور محاضرة سلمان بن عبد العزيز (محور التأسيس) وهو محور (فكري) في المقام الأول، إذ هو محور تظله وحدانية الله في كل باعث، وكل خطوة، ومن كل جانب.. نقرأ في المحاضرة ـ مثلا ـ:«عاشت الجزيرة العربية قرونا طويلة من عدم الاستقرار، وعدم الأمن، وضعف الدين عند الناس، وانتشار دويلات كثيرة، لا تتجاوز حدود قرية أو بلدة أو إقليم، بعد ان كانت تنعم ـ ولعدة قرون ـ بالوحدة والاستقرار في فترة الدولة الاسلامية في عهد المصطفى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم. والدولة الأموية والدولة العباسية.. وجاءت الدولة السعودية لتعيد الاستقرار لهذه المنطقة على نهج الدولة الاسلامية الأولى، وقد توحد أغلب أجزائها في دولة واحدة تقوم على الكتاب والسنة، وليس على أساس إقليمي أو قبلي أو فكر بشري، منذ أكثر من مئتين وسبعين سنة، عندما تبايع الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله ـ على ذلك.. ونتيجة لهذا الأساس المهم والالتزام به عادت الدولة السعودية الى الظهور مرة ثانية، ومرة ثالثة على يد الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ الذي بدأ إعادة تأسيس الدولة السعودية في سن مبكرة، وبأفراد قليلين، وجعل (كلمة التوحيد) هي الأساس، ولم يكن هدفه توسيع الملك لأجل الحكم فقط، وإنما لخدمة دينه وشعبه، وخدمة المسلمين.. ولهذا قامت المملكة العربية السعودية على الكتاب والسنة، وليس على قومية ضيقة أو عصبية مقيتة مما جعلها هدفا للأعداء الذين حاولوا وما زالوا يحاولون سلخها من عقيدتها، لأنهم يعلمون أنه متى ما تخلت عنها، فإن ذلك إعلان صريح بزوالها، ولا شك ان أعداء هذه الدولة هم أولئك الذين يتطرفون باسم الإسلام ـ وهو منهم براء ـ ويصبحون أداة هدم وارهاب، وهم أولئك الذين يؤيدون أسلوب التحرر من الدين ومبادئه وينادون بالتخلي عنه».

هذا طرح فكري واضح ـ إلى درجة التألق ـ وطرح فكري جاد ومبدئي ويقيني، لا غموض فيه، ولا مجاملة ـ لأقارب أو أباعد ـ ولا مداهنة، ولا تردد، ولذا اخترناه ليكون محور هذا المقال ـ من بين محاور عديدة ومتنوعة انتظمتها المحاضرة ـ وعماد المحور هو (كلمة التوحيد) وضمائمها ومقتضياتها.

ومن هذا الوضوح الشديد في الطرح ينبثق سؤال واضح جدا وهو: لماذا جعل الملك عبد العزيز كلمة التوحيد (أصل) حركته ونهضته، وعنوان راية دولته ورمزها الواضح الناطق المفهوم؟.. لقد اختار ذلك:

أولا: لأنه (صاحب منهج)، وهو الإسلام ـ كتابا وسنة ـ ومما لا ريب فيه: ان كلمة التوحيد هي (أول) أولويات منهج الإسلام ـ باطلاق ـ، إذ لا يتقدم (لا إله إلا الله) شيء قط في العلم والمعرفة والاعتقاد والعمل:«فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات».. ولقد بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة بكلمة التوحيد:«قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».. وفي البدء المنهجي بالتوحيد (جدوى عملية عالية): ـ بالمقياس التربوي والتثقيفي الناجع ـ، ذلك أن (التجديد الحقيقي للإنسان) إنما يبدأ من داخله: من داخل عقله وقلبه وضميره. فإذا تجددت هذه المنطقة المعنوية الداخلية وصلحت بالتوحيد: صلح كل شيء في حياته الخاصة والعامة.. والعكس صحيح بالضبط 100%.

ثانيا: ان السلطان في الاسلام (وسيلة) لا غاية: وسيلة لتمكين الناس من عبادة الله وحده لا شريك له، وتهيئة البيئة الصالحة المواتية لهذه العبادة الخالصة (بمفهوميها الخاص التوقيفي، والعام الذي ينتظم كل عمل صالح: أيا كان اسمه وصيغته وصورته).. ومن البراهين على هذا المفهوم: قول الله عز وجل:«الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور».. وقوله جل ثناؤه: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا».

وكان هذا المفهوم ساطعا في عقل الملك عبد العزيز، وفي ضميره، بدليل انه بكّر باعلان ان (الملك لله)، حيث أمر مناديه ـ لحظة دخوله الرياض ـ بأن ينادي (الملك لله ثم لعبد العزيز).. وهذا المعنى التوحيدي القوي في النداء: مركوز في آية النور الآنفة التي ربطت بين (ليستخلفنكم في الأرض) وبين (يعبدونني لا يشركون بي شيئا).. فحقيقة الملك ـ لدى المسلم الخالص التوحيد ـ هي لله عز وجل، وإنما يكون الحاكم أو السلطان بمثابة المستخلف.. ومعلومة هي القاعدة التي تقول:«الوسائل تأخذ حكم المقاصد».. ويتوجب ـ هنا ـ ضبط الكلمات والمعاني ضبطا يسد الأبواب ـ بإحكام شديد ـ في وجوه الانتهازيين والمتاجرين والمتلاعبين بـ (الدين) من السياسيين والحزبيين الخ. إن هناك ميزانا دقيقا، ومعيارا صارما لتمييز الأصلاء من الأدعياء في هذا المجال وهذا المعيار هو أ ـ فهم الاسلام ـ عقيدة وشريعة ـ فهما سديدا بناء على أصول الفهم المقررة المعتبرة.

ب ـ واقعية. ومصداقية الالتزام بالاسلام ـ عقيدة وشريعة على المستوى الشخصي، والصعيد العام. فمن ثبت ـ بالبراهين العملية الواقعية ـ: أنه يفهم الاسلام فهما سديدا لا مكان فيه للغلو في الدين، ولا في التساهل في شأنه.. ومن ثبت التزامه الحقيقي بعقيدة الاسلام وشريعته في حياته الخاصة، وفي إنفاذ الشريعة على الصعيد العام.. ومن ثبت ـ بالأدلة الاستقرائية ـ أن التزامه بذلك كله قد اطرد في الزمن اطرادا لا يعتريه فتور ولا انقطاع، فهو المشهود له بالصدق والاخلاص والجد في الأمر كله.. أما من يدعي الاسلام ـ لفظا وشعارا ـ ثم يتجافى عنه في الواقع التطبيقي فهو الانتهازي، وهو المتاجر المزايد، وهو الدعي الكذوب ـ ولقد شهد التاريخ الموثق ـ على لسان الخصوم قبل لسان الأصدقاء ـ ان الملك عبد العزيز كانت ابرز خصائصه: خلوص التوحيد، وصدق التدين، وتوهج التقوى، وقرة العين في الصلاة. هذا على المستوى الشخصي. أما على الصعيد العام فقد شهد له ألوف الشهود العدول بصدقه وعزمه وحزمه في تطبيق شريعة الاسلام على المجتمع والدولة: لا تأخذه في ذلك لومة لائم ـ وثالثة جميلة وهي التزامه الاسلامي المطرد بذلك كله ـ بلا انقطاع ولا فجوات ولا تراخ ـ منذ دخوله الرياض 1319 الى أن وافته المنية عليه رحمة الله 1373، أي على مدى أكثر من نصف قرن (54 عاما). وصدق الله:«يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة».

ثالثا: اقام الملك عبد العزيز ملكه العريض على (التوحيد) لأن الدولة السعودية قامت ـ في أطوارها كافة ـ على لا إله إلا الله التي احيا معانيها في الأفئدة والعقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. وحين جعل الملك المؤسس كلمة التوحيد أول أولويات نهضته، إنما كان يستأنف مسيرة، ويبني على أساس سبقه اليه آله الصالحون: أساس لا إله إلا الله. فما جاء الملك عبد العزيز لينقض، ولا ليبدل. (في عصر تسابق فيه حكام كثر في الوطن العربي والعالم الاسلامي الى النقض والتبديل).. وإنما جاء ليستأنف، ويعزز البناء وينتقل بالبلاد والناس نقلة نوعية كبرى في ظل لا إله إلا الله.

رابعا: الداعي الرابع الذي دعا الملك المؤسس الى جعل كلمة التوحيد أول أولوياته هو: انه يتحرك وينهض فوق أرض سطع نور التوحيد عليها سطوعا غامر الإشراق والسنا. فإذا تجاوزنا التاريخ الحديث الى التاريخ الأول التقينا بينابيع التوحيد الرائقة تتدفق على هذه الأرض.. قلنا قبل قليل: إن سلمان بن عبد العزيز ألقى محاضرته في مكة المكرمة.. والعلاقة وثقى بين البلد الحرام وبين (التوحيد). فمنذ ألوف السنين، جهر خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالتوحيد في أرجاء مكة وهو يرفع القواعد من البيت ومعه ابنه اسماعيل.. وتمر السنون فإذا بشقي العرب عمرو بن لحى الخزاعي يغير ملة ابراهيم ويجلب الأصنام من الشام ويعبدها. ولما كان هو زعيم مكة فقد فرض وثنيته البائسة على أهل مكة.. وهذه الظاهرة القبيحة دليل حاسم على أن للسلطة المؤمنة أهميتها العملية في حماية التوحيد والتمكين له.. ثم تمر القرون.. ثم يبعث الله تعالى نبيه الخاتم في مكة ليجهر بالتوحيد الخالص:«إن الهكم لواحد. رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق».. وبهذه البعثة المباركة: تمكن التوحيد، وانتشر نوره في جزيرة العرب والعالم.. لقد كان الملك المؤسس على علم بذلك كله، ومن هنا بيّت النية والعزم على أن تظل هذه الأرض محررة خالصة لكلمة التوحيد: لا يزاحمها شرك ولا وثنية.

والتمام ـ كذلك ـ نقطتان:

أ ـ نقطة: ان معنى لا إله إلا الله هو (ألا معبود بحق سواه) فإن نفي هذا المعنى: إقرار بأن الصنم معبود بحق!! وأنه ينبغي التنبه!! ان الصراع الجاري هو صراع فكري يمس العقائد، وان الأمراض النفسية المتزايدة لا شفاء منها إلا بالتوحيد الخالص، وانه ينبغي أن يكف كثير من الدعاة عن الغرق في القضايا السياسية لكي يبذلوا مزيد الجهد في العناية بالتوحيد: أصل الإصلاح وعماده وغايته.

ب ـ ونحن نقرأ المحاضرة شعرنا وكأننا في مجلس حوار أو على بساط بحث مع الملك عبد العزيز نفسه. ولا عجب في ذلك، فابنه سلمان ـ الذي تحدث عنه ـ قريب منه في أشياء كثيرة.