هكذا هو التاريخ.. وهكذا هو الإنسان

TT

في برنامج وثائقي عن الأماكن والآثار المنهوبة أو المخبأة أو المدمّرة في اليمن، شاهدت ما يؤلم القلب، من سيطرة بعض أفراد القبائل على تلك الأماكن، والحفر فيها، وتشويهها إما بالتكسير أو التلوين.

والواقع أنه ليست اليمن وحدها المبتلاة بذلك، فقد كانت (البتراء) في الأردن، و(مدائن صالح) في السعودية عرضة لذلك إلى وقت قريب، فتلك المعالم الرائعة حفظها الزمن آلاف الأعوام، إلى أن عرف البعض كيف يستعملون البنادق، فراحوا يتنافسون أيهم أدق قدرة بالرمي وإصابة رؤوس التماثيل الجميلة المنحوتة، ولم يعد هناك اليوم أي رأس فوق أكتاف التماثيل، فقط قطفوها (طيور شلوا).

وقبلهم (كشط) سطح الأهرامات الأملس من الحجارة الصغيرة التي كانت تغطيه، ولم يبق منه إلاّ جزء صغير (متحور) ظاهر للعيان على قمة الهرم الأوسط، وعندما زار المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) مصر قبل أربعة قرون من الميلاد ذكر أن صفحات أضلاع الأهرامات كانت تلمع تحت أشعة الشمس كالمرآة، وتكاد تجهر الأبصار.

وحيث إن القوم الذين أتوا بعد الفراعنة بألف عام أو أكثر، قد عجزوا أو استصعبوا أن يجلبوا حجارة ملائمة لما يبنون، لذلك استسهلوا الأهرامات القريبة منهم فجردوها من (غلاتها)، وما يظهر لنا اليوم من رؤية لتلك الأحجار المتراكمة إنما هو بمثابة (الهيكل العظمي) للجسم.

وأكثر بيوت القاهرة القديمة ومساجدها وكنائسها وقلاعها بما فيها قلعة صلاح الدين إنما بنيت من حجارة الأهرامات وعلى حسابها.. ولكن ماذا نفعل، هكذا هو التاريخ، وهكذا هو الإنسان.

والعبث بالآثار القديمة كان متواليا عبر أحقاب طويلة، حتى أوروبا لم تسلم من ذلك، ففي جنوب فرنسا هناك أكثر من 100 ألف نقش محفور في الصخر منذ فترة ما قبل التاريخ وهي الأعمال اليدوية للرعيان إبان العصر البرونزي يعبّرون فيها عن أحلامهم ومخاوفهم، طمست أو شوهت، وضاعت رسوم أخرى تحت طبقات من الشعارات والكتابات التي يمارسها السياح.

واعترف أنه قد سبق لي أن ساهمت في مثل هذا العبث عندما كنت في مرحلة (الجهل الأصغر)، قبل أن أصل الآن إلى مرحلة (الجهل الأكبر)، عندما كنت مع مجموعة من الرفاق نصعد درج (بيزا المائل) في ايطاليا، فما كان مني إلاّ أن أتناول قلمي واكتب اسمي على الحائط من أجل أن أخلّده، وقد لاحظ ذلك أحد الزملاء، وبعد أن انتهينا وبدأنا في النزول وعندما حاذينا اسمي العزيز المكتوب، ما كان من ذلك الزميل (الشرير) إلاّ أن يتناول قلمه و(يشخبط) على اسمي ويطمسه، وكدنا نشتبك في مصارعة رومانية على درج البرج، ولكن من حسن الحظ أن الرفاق (فرعوا بيننا).

ولقد شاهدت بعيني أقدام تمثال (ديفيد) المنتصب في أحد ميادين (فلورنسا) ـ وهو نسخة طبق الأصل من التمثال الذي نحته (مايكل أنجلو) ـ شاهدت أظافر أقدامه وقد صبغها أحد العابثين بلون أحمر يشبه (المنكيور).

وحال هذا التمثال أفضل من حال تمثال بوذا المنحوت منذ آلاف الأعوام في أحد جبال أفغانستان، والذي يعتبر أكبر تمثال على وجه الأرض، الذي دمرّه بعض الجهلة الذين لا يفكون (حرف العقل) من أنصار (طالبان).. يدمرّونه بالمتفجرات عن بكرة أبيه في (ثانية واحدة) دون أن يرف لهم رمش، وكأن شيئاً لم يكن.

حتى الأماكن التي لها دلالات حميمة لدينا نحن المسلمين (كغار حراء وغار ثور) في مكة المكرمة، لم تسلم من التشويه وكتابات العابثين، وقد قرأت كتابة رديئة مكتوبة على صخرة ليست بعيدة عن الغار وفيها الجملة التالية: ذكريات فلان وفلان.. لا أريد ذكر الأسماء لأنها لا تعنيني.

[email protected]