فيضان

TT

أقرأ في مذكرات أحمد أمين عن العقد الأول من القرن الماضي فأجد أن مشكلة مصر الكبرى هي تكاثر النسل ـ وأقرأ في سيرة جمال عبد الناصر فأرى أنه نجح في إقامة السد العالي وأخفق في «ترشيد» التكاثر الذي يلتهم خيرات السد ومحاصيل القطن ومداخيل القناة. واقرأ في «الوثائق» الديبلوماسية البريطانية فأجد أنه كان من السهل على أنور السادات عبور خط بارليف وكان مستحيلا عليه العثور على كميات كافية من الخبز ـ واقرأ أخبار مصر في «الأهرام» فأجد أن الدولة دفعت حتى الآن 60 مليار جنيه دعما للمواد الغذائية، وفي صفحة أخرى اقرأ أن ضحايا أزمة الخبز تجاوزوا العشرين قتيلا.

ثمة قضية كبرى في مصر اسمها، للاختصار، النسل. وثمة مشكلة وطنية اسمها عدم الوعي الاجتماعي للخطر الذي يتهدد مصر. إنها البلد الوحيد الذي يقيم فيه الأحياء في المقابر.

وليس من مشروع ري أو تخصيب للصحراء يستطيع أن يلحق بخصوبة الزواج المصري. وليس من الجائر تنظيم النسل ولا منع الناس من الزواج ولا حرمان مصر من مواليد جدد.

وقد حاول ماو تسي تونغ تحديد النسل بطفل واحد للزوجين لكن الأزواج «هربوا» الولادات. وأنا أعرف تماما ماذا تعني المطالبة بتحديد النسل، سياسيا واجتماعيا وقوميا. ولكن يجب أن نسأل أنفسنا ما هي جدوى الإكثار من الفقراء والمعدمين والأميين والعاطلين عن العمل وأبناء الشوارع وسكان المقابر؟

إن الفوائض في الإكثار تقضم مستقبل مصر كدولة كبرى. لا النيل ولا القطن ولا عشرة ملايين مهاجر مصري ولا مليون ونصف مليون سائح روسي يستطيعون إعانة مصر على مواجهة هذه المعضلة. كل ما هو مطلوب هو إقناع الناس بأنه من الظلم استقبال عشرات الآلاف من المواليد كل شهر في أحضان الفقر والعوز والإهمال. لقد تغيرت مصر. لم تعد الأم تلد لأنها في حاجة إلى ساعد إضافي في الحقول والترع. لم تعد مصر مجتمعا فلاحيا فيه باشاوات وشركاء وعزب. إنها الآن مجتمع مدني صناعي تجاري يقوم إلى حد بعيد على اقتصاد الخدمات.

وما قطعته مصر في السنوات العشرين الماضية لا يقاس بما كانت عليه. لكن الزيادة المذهلة في التناسل تحول دون بلوغ الكفاية وتحصين الإنتاج وتنويع وتطوير مصادر الدخل القومي. كان الأستاذ محمد عبد الوهاب يقول: «مشكلة مصر لا يحلها وزير خارجية بل وزير تموين». والأزمة الأخيرة ليست أزمة صوامع وتقصير من الدولة. إنها نتيجة طبيعية للفيضان البشري المتزايد.