الصحافة بين شمعة الحوار وظلام سوء الفهم الثقافي

TT

تذكرت الحكمة القديمة «بدلا من لعن الظلام أوقد شمعة» قبل ايام في مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين للشعر والادب والفنون في الكويت.

الصديق عبد العزيز ـ ابو سعود كما يناديه الكويتيون ـ شاعر مرهف الحس ثاقب البصيرة سمع العرب حوله يلعنون ظلام هوة تفصلهم عن الغرب فأوقد شمعة جديدة حدد ضوءها أبعاد الهوة فاتضح ان عبورها ليس بالصعوبة التي تصورها البعض.

دعا ابو سعود الى ندوة حوار بين العرب والغرب حول دور الإعلام كجسر بين الثقافتين في الاسبوع الماضي في مكتبة مؤسسته وهي من اهم مراكز العالم لتوثيق وجمع الشعر العربي .

شاركت، خلال العامين الماضيين، في اكثر من عشر ندوات حول الموضوع نفسه (النرويج وهولندا وبريطانيا ومصر والاردن والكويت والامارات وبلجيكا) فكانت ندوة البابطين في الاسبوع الماضي من اكثرهم ثراءً وشمولاً، بتنوع المشاركين والدراسات التي نوقشت عبر نخبة صحفيين ومثقفين من 14 جنسية بمشاركة نسائية 40%.

وبينما اقتصرت ندوة البابطين في العام الماضي على اربعة صحفيين محترفين ( بريطانيا وفرنسا والسعودية والكويت) وعدد من الاكاديميين النشطاء من لبنان والاردن والكويت؛ فإن عدد المحاضرين ـ في ندوة 2008 ـ زاد على 16، منهم 13 من الصحفيين الغربيين وثلاثة من كبار الصحفيين العرب؛ وأكاديميون وساسة وديبلوماسيون تربطهم علاقة قوية بالصحافة وبالعالم العربي بحكم الوظيفة، كوزير خارجية فنلندا السابق، او عن طريق احزابهم السياسية، ليصل عدد المدعوين من خارج الكويت الى 35 .

عقب ندوة عام 2007 بادرت مؤسسة البابطين بإضاءة شمعة لتبديد ظلام غياب الحوار مع الغرب بتكليف الجامعي الانجليزي، طوبي هاليورن بالإعداد لندوة هذا العام، فترك الشاب عمله في صحيفة كويتية انجليزية ليتفرغ للندوة.

ووفق اصول البحث الجامعي البريطاني اختار طوبي اكثر من 40 اسما، وباتصالات شخصية وزيارات لاوروبا، قبل 17 منهم الاشتراك في الندوة لتصبح مهرجانا إعلاميا بين الشرق والغرب، مقارنة بالندوة الاولى التي اقتصرت مشاركة الغرب فيها على بريطاني واحد وفرنسي واحد.

اشتركت أمريكا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والمانيا ومصر ونيوزيلندا وروسيا ولبنان وسوريا والكويت وتركيا واذربيجان في ندوة 2008 وكان لبريطانيا نصيب الاسد؛ خمسة صحفيين من (بي بي سي، والتايمز، والديلي ميل، والديلي تلغراف، واتحاد الصحفيين) واثنان من الساسة.

مستوى الدراسات التي نوقشت كان راقيا وشاملا («تغبر خطاب الإعلام الغربي بعد 11 سبتمبر»؛ «دور الصحفيين في تعميق او إزالة سوء الفهم بين الشرق والغرب»؛ «سوء التفاهم في الاطار الصحفي»؛ «دور الاعلام في حوار الثقافات»؛ «الحوار ودور الصحافة الجديدة») وكل منها في اهمية رسالة ماجستير.

إن ما قدمته مؤسسة البابطين غير الحكومية في مجال الحوار مع الغرب يفوق ما قدمته وزرات الاعلام العربية مجتمعة في المجال نفسه منذ 11 سبتمبر 2001.

وبينما كان الهاجس المشترك هو محاولة التعرف على بواطن سوء الفهم بين الشرق والغرب، ظهر تباعد في وجهات النظر بين مشاركين عرب اتهموا الصحافة الغربية بالانحياز ضد ثقافتهم وقضاياهم، وبين غربيين اجمعوا على ان سوء الفهم غير متعمد وانما هو تقصير إما يعود للكسل او ضيق الوقت، او لجهل المحررين بالثقافة العربية.

عبّر عرب، بعضهم يقيم في أوروبا، أو يتابعون، من الكويت، الصحف الصادرة بلغات غربية، عن خيبة أملهم لعدم وجود تبادل في الصحفيين للعمل في صحف بلدان عربية وغربية، واعتبروا الثقافة العربية غائبة عن الغرب لانغلاق الاعلام الغربي أمامها.. هذا نصف الحقيقة.

فرؤساء ديسكات الأخبار الخارجية والشرق الاوسط في الديلي تلغراف والبي بي سي والتايمز والاندبندنت والغارديان والايكونوميست والديلي ميل (ومنهم كاتب هذه السطور) يجيدون اللغة العربية وتاريخ المنطقة بدراساتهم في الجامعات البريطانية وخدموا لفترات طويلة في عواصم الشرق الاوسط.

رئيسة ديسك الشرق الاوسط في الفاينانشيال تايمز الزميلة اللبنانية رولا خلاف؛ وفي النيويورك تايمز المصري يوسف ابراهيم، كما ان نائبي رئيس تحرير كل من الكوريرا ديلا سيرا الايطالية، ودير شبيغل الالمانية مصريان؛ واللبنانية نورا بستاني في الواشنطون بوست.

وبالمقابل لا أعرف صحيفة عربية واحدة تعاقدت مع صحفي بريطاني او امريكي يجيد العربية، حتى ولو لستة اشهر، للعمل بين محرريها من باب إضاءة شمعة لتزيل لعنة ظلام سوء التفاهم بين الصحفيين العرب وزملائهم الغربيين.

«الشرق الاوسط» تنشر مقالاتي ومقالات المفكر الامريكي المصري المولد مأمون فندي بانتظام، وتمتلئ صفحات الرأي فيها بكتابات زملاء بريطانيين واوروبيين وامريكيين وتدعو ساسة ومفكري الغرب للكتابة.

لكن لم تدعني مطبوعة عربية واحدة من الدار البيضاء غربا الى الكويت شرقا ومن بيروت شمالا الى مسقط حنوبا، ولو مرة واحدة لكتابة مقال فيها. كما لم تدعُ الصحف العربية الدكتور فندي، او يوسف ابراهيم، او أي من الصحفيين الغربيين من اصول شرق اوسطية كالسيدتين خلاف وبستاني، او من بريطانيين يجيدون العربية، للكتابة فيها؛ ولذا فتحميل بعض المثقفين العرب الصحافة الغربية مسؤولية غياب الجسور مع الصحافة العربية ليس فقط مغالطة للواقع وانما نفاق وقياس بمكيالين.

وجود شاب صحفي انجليزي في قلب فريق الإعداد لندوة البابطين هذا العام ساهم في وجود دراستين جديدتين اثارتا مناقشة واسعة يوم الاثنين عن دور الإعلام في مد جسور التفاهم عبر الصحافة الجديدة، كالمدونات ومنابر المناقشة على الانترنت بدعوة اثنين من المتخصصين في هذا المجال. وايضا منتجة افلام فيديو اخبارية لمتفرجي الانترنت وهي تعد فيلما عن الندوة وعن نشاط مكتبة البابطين لعرضه بالانجليزية على المواقع المختلفة كوسيلة تفاهم تجتاز الحدود والعراقيل وثير الخبر والمعلومة فيها حوارا آنيا عبر الثقافات المختلفة.

ومع تهنئتنا لابي سعود على هذا المجهود العظيم والمثمر، نرجو ألا تتحول هذه الندوة التاريخية الى مناسبة عربية تقليدية يبتهج القائمون عليها للتغطية الاعلامية لبضعة ايام، ثم يخلدون والمشاركون فيها الى الراحة حتى ندوة العام القادم.

فهذا العمل يجب ان يستمر طوال ايام السنة باتفاق المشاركين الذين قدموا اقتراحات مفيدة لعل اكثرها واقعية تطوير موقع دائم حي خاص بالندوة على الانترنت باللغات العربية والانجليزية والاوروبية الكبرى لاستمرار الحوار بين الجانبين ونشر دراسات عن الندوة لتكون منبراForum لمناقشات وحوار مستمر.

والمطلب الاهم الإسراع بجمع الاوراق والدراسات والمحاضرات ومناقشات الحاضرين ليتم تحريرها بدقة شديدة في كتاب ترتب فصوله حسب المواضيع والقضايا التي نوقشت ويصدر في نهاية العام او مطلع العام القادم بلغات مختلفة، ويهدى الى اهم الجامعات العالمية التي تشمل اقسام الصحافة.

ففي البدء كانت الكلمة.