«طويلة»

TT

بداية الحرب اللبنانية كان أبي يأتي لزيارتنا والرصاص يلعلع في كل مكان. لكنه يدخل باشاً ومبشراً: «خلصت. يومان وينتهي كل شيء». كنت آنذاك رئيسا لتحرير «الأسبوع العربي». وكان المسؤول عن القسم المحلي زميلا خبيرا وكثير الخلق هو الراحل سمير شاهين. وكان سمير يدخل إلى مكتبي ويتجه إلى النافذة ويتطلع بعيدا، ثم يقول كأنه يخاطب نفسه «طويلة. بعدها طويلة».

ولم أكن أحب أن أقتنع. جميع اللبنانيين كانوا يرددون «خلصت». ثم بدأنا نشير إلى الأحداث بـ «الجولة الأولى» و«الجولة الثانية». وعندما بدأت «الجولة الثالثة» دخل سمير شاهين بكل طيبته ووداعته واتجه فوراً نحو النافذة وراح يردد لازمته المقلقة: «طويلة»! وقلت له، كل البلد يقول إنها «خلصت» إلا أنت، فلماذا هذا الإصرار على التشاؤم. وأجاب: «كل لبنان متفائل لأن اللبنانيين لا يقابلون الذين أقابلهم ولا يعرفون الذين أعرفهم. وهذا من حسن حظهم ومن سوء حظي».

بعدما هدأت الحرب وضع سمير شاهين انطباعاته ومشاهداته المهنية في مجلد من جزءين، عرفت عندما قرأتهما لماذا كان متشائما فيما تفاءل الآخرون، الذين فضلوا أن يصدقوا تمنياتهم على أن يصدقوا ما يعرفون عن حقيقة الصراع السياسي حول لبنان.

كلما قيل إن الأزمة الرئاسية في لبنان سوف تحل غدا أتذكر سمير شاهين. وأتذكر عشرات آلاف الفلسطينيين الذين تركوا منازلهم على أمل أن يعودوا إليها بعد ثلاثة أيام أو ثلاثة أسابيع. وأتذكر ابتسامة أبي الذي كان يحاول أن يبدد من حولنا ما نرى وما نسمع وما نخشى. لم يكن أحد يعرف إلى متى سوف تستمر الحرب ولا يعرف أحد إلى متى سوف تستمر هذه الحرب الباردة الآن وكيف ستنتهي. لبنان اليوم مثل لبنان 1975، مع تغيير طفيف في نفوذ بعض القوى الخارجية. بلد غارق في قرارات الدعم الدولية ومليء بالجنود الدوليين ومن حوله دعم عربي صادق. ولكن طبيعة الصراع أكبر من التدويل والتعريب ورغبات اللبنانيين. ففي «الساحة» اللبنانية كما كان يسميها الرئيس ياسر عرفات وكما يسميها الآن السيد حسن نصر الله، تتقرر أشياء كثيرة أبعد من لبنان بكثير وأكبر منه بكثير. ثمة صراع واضح حول مصير النظام العربي والإقليمي برمته وما من أحد يقول ذلك. لأننا مثل فلسطينيي 48 ولبنانيي 1975 نرفض أن نتحمل مرارة هذه الحقيقة.