يقابل مصطلح «الديوانيات» في الخليج، مصطلح شاع في منطقة الحجاز حتى عهد قريب هو «المقاعد»، و«المقاعد» جمع مقعد، وهي الغرفة في أسفل البيت التقليدي القريبة من مدخل الدار، والتي لها «روشن» يطل على الطريق، ولا يخلو بيت من البيوت التقليدية من «المقعد»، الذي يتخذه صاحب الدار مجلسا للسمر، وملتقى للخلان.. ولعبت «المقاعد» دورا كبيرا في إثراء الحركة الأدبية والفنية، كما أسهمت في ضخ الكثير من الحيوية في شريان الحياة الاجتماعية..
وفي مدينة جدة كانت «المقاعد» تمثل الصالونات الأدبية والفنية والاجتماعية، فكانت أحياء المدينة التقليدية عامرة بالكثير من «المقاعد» الشهيرة التي يرتادها الرواد في مختلف المجالات، فلأدباء جدة أمثال: محمد حسن عواد، وحمزة شحاتة، ومحمود عارف، وأحمد قنديل مقاعدهم الخاصة التي يلتقون فيها، ويناقشون إبداعاتهم، ولفناني المدينة أيضا أمثال: سعيد زقزوق، محمد صالح عرفة، عثمان خميس، عمر باعشن، نور الدين نحاس، بكر وأحمد بغدادي، حسين يحيى، وأحمد جابر «مقاعد» تجمعهم تتعالى من «رواشنها» الدانات والمواويل، ويقول لي فنان العرب محمد عبده «إن تلك المقاعد كانت مدارس لتعليم أصول الغناء».. وكان للرياضيين مقاعدهم الشهيرة كمقعد عميد الرياضيين السعوديين حمزة فتيحي، ومقعد آل باحجري، كما لعبت «المقاعد» أيضا دورا بارزا في الحياة التجارية للمدينة، فلقد اتخذها عدد من التجار مكاتب إضافية لهم، تتم فيها الكثير من الصفقات والتعاملات..
وقد كنت أمر البارحة بدروب البلدة القديمة، فأفرحني أن الحياة بدأت تدب من جديد في بعض المقاعد التقليدية في حارات الشام والمظلوم واليمن، وأن أبناء المدينة أصبحوا يتخذون من «مقاعد» بعض تلك البيوت منتديات لأسمارهم، ومقار لتجمعاتهم، فأنست بخطوهم الدروب، وفرحت لعودتهم إليها «الرواشن». ويمكن أن تشكل هذه الظاهرة معينا لخطة أمانة المدينة الهادفة إلى إحياء وتفعيل المنطقة التاريخية، وجعلها منطقة جذب سياحي.. ولعلي أعتب هنا على بيتي المصورين والتشكيليين اللذين لم يستطيعا استثمار وجودهما في هذه المنطقة للعب دور ريادي في إثرائها، وجعلها منطقة ارتياد للمصورين والتشكيليين، فالمدينة التاريخية ليست مسؤولية الأمانة فحسب، ولكنها مسؤولية كل المؤسسات الثقافية والفنية والاقتصادية والرياضية وغيرها، فهل يضطلع الجميع بمسؤولياتهم تجاه الإحياء الاجتماعي لهذا الجزء الوحيد الذي سلم من شهوة «التراكتورات»؟