ضاق الأفق!

TT

هذا ليس مقالا، كما أنه ليس خطبة، إنه ملخص تجربة. أتاحت لي الصدفة فرصة تعليم أستطيع بكل أمانة القول بأنه كان جيدا، من غرب النيل في أقصى جنوب مصر، حيث لم أكن ألبس حذاء حتى السنة الرابعة الابتدائية، أي في سن الثمانية، لأنني دخلت المدرسة الابتدائية قبل السن القانونية بعامين، ليس لنبوغ مبكر، وإنما لحكاية ملخصها أن المدرسة الأصلية في المنطقة كانت في القرية المجاورة، ولأن معركة ثأر حدثت بيننا، قررت الحكومة الفصل بين البلدتين، ونقل التلاميذ إلى المدرسة الجديدة. لم يكن في الصف الأول ما يكفي من الطلاب، فجمع ناظر المدرسة الأطفال ممن يبدو عليهم الاقتراب من سن السادسة، ولما كانت بنيتي معقولة، ظن أن سني مناسب، وهكذا دخلت المدرسة. لم أعرف سنوات عمري الحقيقية إلا عندما تقدمت للشهادة الابتدائية، حيث استخرجت لي شهادات لا علم لي بها.

الهدف مما تقدم هو أن التعليم بالنسبة لي كان صدفة ولم يكن رغبة، وليست لدي مشاعر رومانسية تجاه تلك الفترة. ولكن ما ان وقعت في فخ التعليم حتى أخذت «الحكاية جد». حفظت من القرآن أكثره، وقرأت فتح الباري في الحديث، ليس رغبة مني في العلم، ولكن فضولا لأن أخي الأكبر اسمه «فتح الباري»، ومن دون دراية مني وقعت في الشرك أيضا، ثم حصلت على منحة الفولبرايت التي أخذتني إلى جامعة جورج تاون في العاصمة الأميركية واشنطن، هناك تعرفت على فكرة المعرفة، وهناك أدركت أن ما تعلمته في مصر يجب وبالضرورة التخلص منه، لأنه عائق للعلم وليس بالعلم. بدأت قراءتي بما يمكن أن يسمى في مصر بالعلم «الهايف»، وهو علم الكلام. كانت أيامها نظرية نعوم تشومسكي في ما يخص علاقة بنية العقل الإنساني واللغة، تخلب العقول في أميركا، كان ذلك عام 1985. تشومسكي عالم لغويات أو كلام عبقري، ولكنه ليس بالعالم السياسي، كما يصوره بعضنا، فما يقوله تشومسكي في السياسة يشبه في عمومياته ما أقوله أنا في اللغويات.

ملأتني الرغبة في التعرف على الشخصيات الشاملة، مثل السير توماس مور الذي كان يعرف الكثير عن الفلسفة والرياضيات والأدب، وتعرفت على ما كتب، ووجدت له شبيها عندنا في حالة ابن رشد. لم أتعرف على ابن رشد عن طريق معلم أو فصل دراسي، ولكن بداية معرفتي به كانت عن طريق القاص والشاعر الأرجنتيني العبقري، خورخي لويس بورخيس، في قصته الشهيرة، «بحث ابن رشد».. كان ابن رشد، حسب القصة، يحاول ترجمة أرسطو إلى العربية. ولما لم يكن عند العرب قد وجد بعد مفهوم المسرح، فلم يتوصل عبقري مثل ابن رشد إلى تفسير لمعنى التراجيديا والكوميديا لدى أرسطو، سوى أن قال بأن التراجيديا أمر حزين، والكوميديا هي أمر مضحك. تلك ترجمة ساذجة بالطبع، والسبب لم يكن قلة علم ابن رشد، وإنما كان ضيق الأفق وغياب مفهوم المسرح في الحياة العربية. ولو كان المسرح مألوفا لدينا، لجاءت ترجمة ابن رشد لهذين المفهومين أكثر تعقيدا وعمقا. التأويل في النهاية هو نتيجة لسعة الأفق، وليس لعبقرية المفسر أو ثقافته.

المفكر ابن بيئته، وكلنا يعرف التحولات التي طرأت على لغة وانسيابية القصيدة لدى الشاعر في العصر العباسي علي بن الجهم، الذي عاش في بيئة صحراوية قاسية أثرت على ألفاظه، وعندما قدم من صحرائه ليمدح المتوكل قال له: أنت كالكلب في حفاظك للود/ وكالتيس في قراع الخطوب. أدرك المتوكل قوة شاعريته، فأسكنه في بستان قريبا من الرصافة حيث الناس والسوق والخضرة والنضرة، فقال بعدها ما اعتبر أجمل أشعار العرب غزلا: عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.

إن تفسيرنا لكل شيء حولنا يكشف عن حدود أفقنا ولا يكشف عن مكنون النص، دينيا كان أو دنيويا، التفسير قصور أكثر من كونه رحابة.

تعرفت على أدب الأندلس، وأدب الغرب حديثه وقديمه. ورغم شغفي بقراءة المسرح، لم أعرف ما كان يقصده شكسبير أو أوسكار وايلد من خلال القراءة، فهمتهما فقط عندما جلست على مقاعد المسرح الإنجليزي وبعد إلمام جيد باللغة. ساعتها أشفقت على الطالب العربي الذي يدرسه مدرس عربي، مسرحية أو رواية أو قصيدة إنجليزية. تعليم الطالب العربي مسرح الغرب بلغة مدرس وسيط أو تعليمه مترجما، هو أشبه بأن يستمتع طالب إنجليزي بقصيدة للمتنبي مترجمة للإنجليزية. المتنبي في الإنجليزية سيبدو بكل تأكيد شاعرا واعظا مباشرا وفجا، لن يستسيغه من عرف في القديم شعر وليم شكسبير أو وليم وردثورث أو تي إس اليوت أو شعر العبقري الآيرلندي وليم بتلر ييتس. من لم تكن لديه المفاهيم والمفاتيح الثقافية والذهنية لا يمكنه تذوق أدب حضارة أخرى، لأن الأدب في النهاية هو التعبير الأرقى عن أي حضارة.

الموضوع لا يخص الأدب فقط، وإنما يخص السياسة كعلم، ويخص الدين كعلم، والتاريخ كعلم أيضا. إن ما تعلمه المدارس والجامعات في عالمنا العربي لا يرقى إلى أن يسمى علما. حتى أن هناك الكثيرين ممن ينظر إليهم في هذا العالم على أنهم مثقفون لأنهم قرأوا مقدمات معرفية بعينها، ككتاب أو كتابين عن تاريخ الأدب أو عن تاريخ الفنون الجميلة. إن مثل هذه المعرفة والقدرة على الرسم والإلمام بالحقب التاريخية أو المعرفة ببعض كلاسيكيات الآداب والاقتصاد والسياسة، هي معرفة يحصل عليها طالب عادي تخرج من أي كلية في أميركا أو فرنسا أو بريطانيا، من المدارس التي تسمى ليبرال آرتس (liberal arts schools). هذه ليست معرفة، بل هي ثقافة عامة يتحدث بلسانها كل من تخرج من أي كلية محترمة في الغرب.

للأسف، لدينا في العالم العربي ثقافة ضحلة عن العالم من حولنا. وتلك ليست مشكلة إذ يمكن تجاوزها بمزيد من الجهد الفردي والجماعي، ولكن المشكلة هي أن من يعرفون هذا النزر اليسير من الثقافة، يظنون أنهم لا يحتاجون إلى معرفة أي شيء جديد. في عالم يظن فيه المبتدئ أنه يعرف كل شيء، يستحيل الحديث الجاد. الجهل يخلق ضوضاء بلا فائدة، أقرب إلى لعبة الأرنب الإلكتروني التي لا تتوقف عن الحركة، المسماة

بـ«الإنرجيزار بني». الجاهل لا يتوقف عن الكلام، لذا نجد أن الجهل ينتشر عندنا بسرعة أكبر من انتشار العلم، ويجد له أنصارا أضعاف ما لدى أهل العلم.

تشعر وأنت تحدث الكثيرين من العرب اليوم ألا شيء هناك لا يعرفونه، إنهم ليسوا بحاجة إلى علم جديد، وإنما يريدون من العلم الجديد أن يؤكد لهم أن ما يعرفونه أفضل بكثير مما تعرفه المجتمعات المتقدمة! يريدون من علم الغرب ما يثبت لهم أن جهلم أرقى من علم الغرب ومعارفه..

نطير بطيران الغرب، ونقود سيارات الغرب، ونتطبب نتيجة تقدم أبحاث الغرب، ونتحدث في الميكروفونات وتنقل صورنا عبر الساتلايت لنتواصل ونشتم الغرب، ويلعب صغارنا على الكمبيوترات، وتؤسس جماعاتنا الإرهابية مواقعها على الإنترنت، كل ذلك بفضل تكنولوجيا الغرب.. ينسى هذا تماما إذا ما جلسنا في زار جماعي ورحنا نتحدث عن أخلاقنا الكريمة وشهامتنا وعداء الغرب لنا والوعد الذي نؤمن به بأننا سنسود العالم ذات يوم! في هكذا مجالس، إذا نطقت علما ونقدا خونوك، وإذا انخرطت معهم في تافه القول اتخذوك خليلا.

أول ما على العرب اليوم أن يتعلموه هو توسيع أفقهم. فليس هناك شيء يمكن لأمة أن تتعلمه إذا ما كان أفقها ضيقا. التفسيرات التي تخنقنا اليوم للدين والدنيا ليست نتيجة لضيق في الدين أو ضيق في الدنيا، وإنما هي ضيق في الأفق.