لبنان والإمبرياليّة

TT

عدت بذاكرتي للستينات الميلادية عندما كنا نذهب يومياً لمتوسطة فلسطين، القريبة من منزلنا، في حي عليشة بالرياض، ونتردد في طريقنا على أحد المنازل التي يقف أمامه سيارة فاخرة من نوع إمبريال، فرسخ الاسم في ذاكرتي إعجاباً بها.

وفي صيف السنة نفسها، ذهبنا إلى لبنان، وكنت أمرّ بصفة مستمرة من أمام إحدى المكتبات في بحمدون، وأشاهد من الخارج الكتب المعروضة وعناوينها، وكانت عناوين الكتب السياسية المنتشرة ذلك الوقت عناوين تتناسب مع تلك المرحلة وشعاراتها مثل: الرجعيّة، الناصريّة، الشيوعيّة، الإمبرياليّة، إلا أنني لم أدرك بعد مفهوم تلك الشعارات، وما تعنيه تلك العناوين، فالعنوان الوحيد الذي جذبني من تلك الكتب هو الإمبرياليّة، كونه ربطني بتلك السيّارة الفارهة، التي أعجبتني في الرياض، فمن باب الفضول قررت في أحد الأيام أن أدخل المكتبة، وأخذت الكتاب المعنون ما هي الإمبرياليّة، علّني أجد صورا ومعلومات عن تلك السيّارة، فحضر صاحب المكتبة، وأخذ الكتاب ووجهني إلى القسم الآخر، حيث كتب أرسين لوبين، وسوبرمان، وبينت له سبب رغبتي في الاطلاع على هذا الكتاب، فضحك طويلا، وقال: سأشرح لك ما هي الإمبرياليّة علّك تفهمها في هذا العمر، ببساطة: هي أمريكا، وأخذ يشتم أمريكا، وأنها تريد السيطرة على مقدّراتنا نحن العرب، وبعد محاضرة مُملّة من صاحبنا خرجت من المكتبة، بعد أن تعرفت على المعنى السياسي المبسط للإمبرياليّة.

وفي لبنان أيضا وبعد أكثر من 30 عاما كنت في رحلة لجبال الأرز، مع أحد اللبنانيين وسألته عن الوضع في لبنان، فقال ليس مشجعاً، وبدأ يسرد ما يعانيه لبنان، والشعب اللبناني، من وجود دولة داخل دولة، ومن السيطرة السورية، على مقدّرات لبنان، وشبّه ذلك بالاحتلال، عندها قلت: سوريا جارة ودولة شقيقة، وحزب الله حزب لبناني، مقاوم للاحتلال الإسرائيلي، فرد بقوة ولكنهما أداة للإمبرياليّة.

وعند توقفنا في أحد المقاهي وسألته: هل تعني أمريكا الإمبرياليّة فأجاب: نعم، أمريكا دولة إمبرياليّة، ولكن تعريف الدولة الإمبرياليّة، ليس مقتصرا على أمريكا وحدها، فإذا مارست دولة ما، القوة بقصد التوسع، والسيطرة على الشعوب، وإخضاعها بدرجات متفاوتة لسلطة معينة، سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً، ولها دوافع مختلفة منها السياسي كضم بلد إلى محور معين، أو عسكري كاحتلال مناطق استراتيجية، فهي دولة إمبرياليّة. فعقبت عليه، إذن: هذا نوع من الاستعمار، فبيّن لي أنّ الفارق بين الاستعمار والإمبرياليّة الحديثة، أن هذه الأخيرة تتناول الدول المستقلة، وتحاول إخضاعها لنفوذ الدولة الأقوى، إما ودّيا بإبرام المعاهدات والاتفاقيات أو بالتهديد وإثارة الفتنة الداخلية. فسألته: هل تعني أنّ سوريا أداة للإمبرياليّة الأمريكية؟! فضحك وقال: ألم تسمع أحمدي نجاد في إحدى خطبه الأخيرة يقول بأن على إيران أن تعد نفسها لإدارة العالم؟! هو بالطبع لا يعني العالم، ذلك العالم، وإنما يعني عالمه القريب، وهذه إشارة واضحة للنظرة التوسعية الإقليمية الإيرانية. فاستوقفته وذكرت له أنّ أحمدي نجاد يحذرنا دائماً من الإمبرياليّة الأمريكية والشيطان الأكبر، وتدافع إيران عن المقاومة في لبنان وتدعو إلى تحرير فلسطين، وخروج أمريكا من العراق، فتوقف كثيرا قبل الإجابة، عندها قال بحسرة: هذه مصيبتُنا أن تأتي إيران، وتتبنى الدفاع عن قضايانا، وترفع تلك الشعارات، وتجعلها وقودا للسيطرة علينا، فاستفسرت منه: وما علاقة سوريا وحزب الله بذلك؟! فأوضح أنّ كل امبراطورية، تجعل لها قواعد إمداد، وقوى لتنفيذ خططها التوسعية، خارج حدودها الطبيعية، وسوريا هي قاعدة الإمداد الرئيسية، وحزب الله في لبنان هو الذراع التنفيذي، لخطط تلك الإمبراطورية في الخارج.

بعدها توقف وقال: لقد وصلنا إلى قمة الجبل، هل أستمر في الحديث؟ فقلت: انتهى وقت السياسة وأشكرك وأشكر لبنان فقد تعلمت فيه معنى الإمبرياليّة وتعرفت فيه على منهم الإمبرياليّون الجدد!!

[email protected]