هل بدأ الرّد في لبنان على ما حدث في دمشق؟

TT

ما كان وارداً أن يمرّ ما حدث في «القمّة العربية العشرين» بدمشق من دون رد. وما كان متوقعاً ألا يكون غير لبنان ـ حيث لا سياج ولا من يسيّجون ـ مكان الرد الطبيعي. وبالفعل، أخذت نذر الرّدود تترى من كل فجّ عميق.

فباسم المطالب المعيشية تتحرّك النقابات المهنية والاتحادات العمالية مطالبة بزيادة الأجور. وباسم «سلّة» الحلول المتكاملة ينشط قادة المعارضة وأبواقها مشدّدين حملتهم على ما يزعمون أنه «استئثار» الأكثرية البرلمانية بالسلطة. وباسم كل شيء، ورفضاً لأي شيء، يتحرّك ويخطب ويزايد ويزمجر أشاوس «التيار» العوني و"«حلفاؤه» الجدد في الشارع المسيحي.

إنه «سيناريو» ممتاز لما يشبه مصحّة للأمراض العصبيّة والعقليّة. أتذكرون فيلم «طيران فوق عش الكوكو» الشهير؟ لبنان يبدو الآن أشبه ما يكون بعش الكوكو!

ثورة المحروم أمرٌ طبيعي... أوَلم يقل أبو ذر الغفاري (ر) «عجبتُ لمَن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرُج على الناس شاهراً سيفه»؟ ...

ولكن على مَن يريد إطفاء النار لا صبّ الزيت عليها أن يفهم كيف طار القوت من البيت أولاً!

فحكومة «بتراء لا شرعيّة ولا ميثاقيّة» ـ كما يُتحفنا الرئيس نبيه برّي في كل مناسبة ـ لا يجوز اتهامها بالعجز عن إيجاد الحلول، وبخاصة، عندما تقاطعها الكتل البرلمانية المعارِضة التي تقود حركة المطالبة والإضرابات، وتواصل جماهير هذه الكتل شلّ البلد باعتصامها في قلب بيروت، وتمنع جباة المرافق العامة من أداء وظائفهم في مناطق نفوذها، وتحتكر أحزابها «الإلهية» السلاح غير الشرعيّ وتستأثر بقرار الحرب والسلم... فتهرّب الاستثمارات والكفاءات والرّساميل وفرص العمل.

بل كان من الأوفق، لو ان المعارضة المكلّفة إسقاط الحكومة، تطالب الرئيس برّي ـ الذي هو أحد أقطابها ـ بفتح أبواب البرلمان الذي يُصادر مفاتيحه، لمحاسبة المقصّرين من الوزراء المنتمين للمعارضة... الحاضرين منهم والغائبين والمستقيلين... نهائياً أو موسمياً.

بل ماذا عن خيارات النقابات والاتحادات العمالية ذاتها؟

لماذا لا تقرّر الدعوة إلى الاعتصام أمام مجلس النواب أو المقرّ العامر لرئيسه لحضّه على محاسبة الوزراء المستنكفين عن أداء عملهم الوزاري، خاصّة أن هذه في صميم مهام المجلس الموقّر المغيَّب؟

لا سرَّ إذاً في أن «تسييس» المطالب العمّالية والمعيشية المحقّة جزءٌ من المؤامرة الهادفة إلى تعميم الفراغ السياسي، المفضي بدوره إلى التأكيد على أن لبنان «دولة عاجزة عن حكم نفسها»... وهو ما يستوجب إعادتها إلى الأحضان الدافئة التي طوّعتها على امتداد ثلاثة عقود... وزرعت فيها على امتدادها كل أشكال الشقاق والكراهية، واستثارت أبشع الأحقاد والغرائز الطائفية والحساسيات الفئوية، وأوجدت لها أتباعاً وأزلاماً وأدوات مأجورة.

فموقع رئاسة الجمهورية شاغرٌ وممنوعٌ ملؤه إلا عندما تستسلم الأكثرية فتتخلّى عن «أرجحيتها» البرلمانية لمبايعة شخص كالنائب ميشال عون... راضخةً للابتزاز الاغتيالي والتسليحي والاعتصامي.

ومجلس النواب، كما سبق القول، مُصادر المفاتيح والمصير وممنوعٌ عليه الانعقاد.

أما الحكومة التي ما زالت تقاوم، فجارٍ حصارها وإنهاكها وإرباكها بكل ما يتيسّر من وسائل مشروعة وغير مشروعة.

أنا، طبعاً، أدرك لماذا تريد القوى القابضة راهناً على مقدّرات الطائفة الشيعية في لبنان إسقاط الحكومة الحالية وإعادة تسليم لبنان لسلطة دمشق... وهي التي شكرتها علانية أمام مئات الألوف من أنصارها يوم 8 مارس آذار 2005 . فهي جزء أساسي من تحالف استراتيجي فيه العديد من قواسم الهوية المشتركة مع طهران. وبالتالي، فهي بخدمتها هذا المحور إنما تخدم مصالحها الطائفية.

ولا استغرب اصطفاف الأتباع والأزلام والأجراء من شتى الرّتب والطوائف والمذاهب حيث يصطّفون اليوم صاغرين، في لقاءات وتجمعات لها مسمّيات وطنية براقة... ذلك لأنهم «فُبركوا» أصلاً لتأدية هذا الدّور المرسوم لهم منذ سنين.

أما ما عجزت عن فهمه حتى اللحظة فهو استمرار التمزّق في المجتمع المسيحي...

إنّني أجد صعوبة في تحليل أسباب تخلّي طوائف ـ بأكملها أحياناً ـ عن غريزة حب البقاء، وانجراف مئات الألوف من أبنائها في هستيريا شخصانية جماعية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الضمور والتلاشي... فالزوال.

أذكر الآن العديد من المناقشات التي كانت تدور بيني وبين بعض الأصدقاء من المسيحيين، وكيف كانت بعض الجهات ـ وعلى رأسها الجماعات المؤيدة للنائب عون ـ ترمي دمشق بكل النعوت والتهم، إلى أن وصلت الأمور بعون نفسه إلى القيام بزيارته الشهيرة إلى واشنطن عام 2003 حيث حرّض الكونغرس علناً على سورية، ثم عاد إلى منفاه الباريسي يومذاك مدّعياً أبوة «قانون محاسبة سورية» كما ادّعى لاحقاً أبوة «القرار الدولي 1559».

غير أن تطوّرات ما ـ ويقال صفقات ... والله أعلم ـ حدثت غيّرت قناعات عون فسهّلت عودته إلى لبنان بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.

اليوم عون وأتباعه في مكان آخر تماماً، ومن مناصريه مَن يراهن على حكمة سماويّة... أو قُل على وحي «إلهي» ـ من نوعية «الانتصارات الإلهيّة» ـ يحمله إلى رئاسة الجمهورية بعناية «الولي الفقيه» و«الرفيق القائد».

هؤلاء السائرون نحو الهاوية كما لو كانوا مخدّرين ...

الخادعون أنفسهم بأنهم أسياد قرارهم ...

المتوهّمون أنهم أذكى من غيرهم ...

المجازفون بمصائرهم ومصائر أولادهم من بعدهم ...

المراهِنون على أنهم سيربحون إذا دخل لبنان نفق الفتنة الشيعية ـ السنيّة...

هؤلاء «البراقشيون» لا أفهمهم، ولا أعذرهم، ولا أحسب انهم يستحقون أي قدر من التعاطف. فهم يؤمّنون تغطية مجانيّة لجريمة فظيعة تُرتكَب بحق وطنهم ستكون وبالاً عليهم قبل غيرهم.