الخبز اللي كان..

TT

فجأة لم تعد إسرائيل ولا الإرهاب ولا الجهل ولا الأمية هو العدو الأول والأهم للدول العربية ولكن بات الغلاء. فارتفاع الأسعار تحول إلى كابوس مزعج، وحديث الناس الذي لا ينقطع، فحمى الأسعار المتصاعدة طالت المواد الغذائية بكافة أشكالها ومواد البناء كإسمنت وخرسانة جاهزة وحديد وأخشاب وغيرها. ولكن يبقى «رمز» الغلاء الأبرز والأهم هو رغيف العيش، فالخبز هو أيقونة الطعام وحد الكفاف الأدنى للمائدة والشخص في العالم العربي. وغريب ومثير حجم وشكل التطور في رغيف الخبز، وهو الذي يتغير لونه بحسب رداءة نوعية القمح الأرخص، وحجمه المتسارع في النقصان بشكل كبير. وضع الرغيف تحديدا يعكس السياسات قصيرة الأجل للأنظمة العربية الثورية سابقا في مجال الزراعة، فهي كلها تبنت سياسات سميت ظلما وبهتانا بالإصلاح الزراعي بينما هي في حقيقة الأمر دمار وتحطيم للزراعة. وحتى الدول غير الزراعية التي دخلت في هذا المجال عانت ولا تزال جراء ذلك. ومن الواضح أن أزمة رغيف العيش ستظل تصاعدية يدعمها ازدياد مهول في أسعار السلع الأساسية على المستوى العالمي، ومشكلة في الأجندة المعنية. أدى ذلك إلى تذمر شعبي، وسط الطوابير الصباحية الطويلة و«طار» مسؤولون. إنه زلزال الرغيف. وتحتار الحكومات كيف تتصرف أمام كل ذلك، فهل تبقي الدعم أم تلغيه، وماذا تفعل أمام التعرفة الجمركية المسعرة على الكثير من المواد الغذائية بصورة غير دقيقة وغير مدروسة؟ هل تبقي الحكومات على وزارات التموين وفي حالة عدم وجودها هل تستحدثها؟ هل تطلق العنان لحكم السوق وتسعيرته أم تسمح للتدخل في التسعير بتكريس فكر اشتراكي قديم والمتمثل في الجمعيات التعاونية المدارة من الدولة، حتى لو أدى ذلك إلى استشراء الفساد وعدم عدالة وشفافية منظومة الشراء، أفضل وأنقى السبل والوسائل؟ إنها جميعا أسئلة هامة وبالغة الصعوبة، ولكن مطلوب أن تطرح ومطلوب أن يتم إجابتها بشكل حاسم وجذري. وزارات التجارة والتموين هي الأكثر تعرضا للنقد وللمساءلة في موضوع الغلاء وتبعاته، إلا أن واقع الأمر يتطلب نظرة فاحصة لأداء وزارات المالية وأسلوب تعاطيها مع التحدي فيما يخص الرسوم والجمارك والشروط الموضوعة على السلع، والتي تجعل المناخ المتعلق بالمواد الغذائية في مجمله مسموما وغير صحي البتة. وشتان الفرق بين اقتصاد العرض واقتصاد الطلب ولا يمكن التركيز على جزء واحد دون النظر للجزء الثاني. ومع اختفاء الدقيق وبالتالي الخبز يكاد الأمر يتحول إلى مسألة بالنسبة للمواطن أشبه بجهاد، يستيقظ صباحه بدعاء وكأنه يستعد لنزال حربي لا يضمن العودة إلى داره معززا أو مكسورا مذلولا، حتى باتت الطرفة التي يتم تداولها بين الناس اليوم حين دعوة بعضهم لبعض لتناول الطعام «هيا لنأكل سوا حتى يصبح بيننا فلفل وملح... لأنه لا يوجد عيش هذه الأيام»! وعود الاستثمار والتصاريح البراقة لا تحقق نفس النتيجة المطلوبة في حالة الفشل في تأمين سلعة حيوية كالخبز، أما عن ميزان الأسعار فهذا قدر عالمي حصل، ويبقى التحدي الأهم هو التعامل مع مفهوم الدعم كنظرة طويلة الأجل ومعرفة أي السلع «تحديدا» التي بحاجة لدعم عادل وفعال، وأي السلع بحاجة لدعم قصير الأجل فقط. أزمة الخبز هي تحد إداري في المقام الأول للتعامل مع ظاهرة عالمية تحتاج إلى جاهزية مختلفة تماما، وإلا كان العلاج المطروح بالتالي ما هو إلا جرعات تفاقم المشكلة ولا تحسنها.

[email protected]