العراق: فشل الشيعة في تشكيل طبقة حاكمة

TT

التهديد بالقوة أفضل من استخدامها. مبدأ تاريخي نسيه نوري كامل المالكي الذي يحكم العراق من عاصمته في المحمية الأميركية (المنطقة الخضراء).

غزا القوميسار المالكي البصرة بثلاثين ألف جندي وشرطي. لو أنه استخدمهم في عرض عضلاته للردع لألقى الرعب في القوى التي تعيث فسادا في عاصمة الجنوب المنكوبة. المدن بالوعة الجيوش. احتل المالكي بعض الشوارع الرئيسية. ولم تستطع قواته تطهير الأزقة والأحياء الضيقة الغاصة بالمسلحين. انتهت قادسية المالكي بعد أسبوع بنصر مزعوم أشرف منه الهزيمة.

كان ارتجال التخطيط والتنفيذ ملموساً منذ اللحظة الأولى. وصلت بعض القوات الحكومية متأخرة. فر بعضها بمجرد وصولها. خرج المالكي من الحرب متهما بغسل يديه بدماء طائفته. أثبتت الحرب الشيعية ضعف أهلية القوات الحكومية لفرض النظام والقانون. اضطر المالكي للاستنجاد بـ«احتياطي» الحملة من قوات أميركية وبريطانية. في البصرة، ارتكبت هذه القوات حماقة استخدام الطيران ضد المدنيين بحجة ملاحقة المسلحين.

كما يفعل الاسرائيليون في غزة، يفعل الأميركيون في العراق وأفغانستان. لم يرتفع صوت في العالم يدين القصف الوحشي للمدنيين. هذا القصف اللا إنساني للعرب هو في مقدمة أسباب الكراهية التلفزيونية التي يُحظى بها الرئيس بوش. تَنَصّلَ القادة الأميركيون من هزيمة قادسية المالكي. قالوا انهم اتفقوا معه على خطة أقل ارتجالا وفوضى، لكنه شن حملته فجأة من دون ان يبلغهم بها. فرك بوش كفيه. فقد منحه فشل المالكي الفرصة لا لتسريحه، وانما للتهرب من عدم تخفيض قواته، متعللا بالوضع الأمني الهش في العراق.

انتصرت الميليشيا وهزمت الدولة. انتصرت فوضى الشارع على فوضى النظام. كان هدف قادسية المالكي وحلفائه «قصقصة» لحية مقتدى الصدر، فخرج الصدر بعمته وعباءته سالما وأقوى مما كان. بمجرد تسجيل تفوقه. تحرك الصدر بسرعة وبراعة ليعلن سحب ميليشياه من الشوارع، الأمر الذي اضطر المالكي إلى القبول باتفاق وقف القتال، والوعد بالعفو عن المقاتلين، ودفع تعويضات لأهالي الضحايا (التقديرات تتراوح بين 700 إلى ألف قتيل).

الحرب الشيعية لم تحسم بعد. وقف القتال هش للغاية. أهداف الحرب السياسية لم تتحقق. كان الهدف غير المعلن إضعاف الصدر قبل الانتخابات البلدية في أول أكتوبر المقبل. نعم، سيطرت قوات الحكومة على ميناء أم قصر منفذ العراق النفطي الوحيد في الخليج، وهو أمر ترتاح له أميركا التي تستورد بعض كؤوس من النفط العراقي، لكنه مزعج لإيران التي كانت تستفيد من تهريبه إليها. غير أن ميليشيات الصدر وحزب الفضيلة (الذي يحكم البصرة بلديا وإداريا) وعصابات المجرمين بقيت مسيطرة فعلا على المدينة.

الصدر المعتقد انه موجود حاليا في إيران يكتشف المرة تلو المرة كم أصبحت أذرع ميليشياه متمردة عليه وعلى النظام والقانون. عندما يحل السلاح محل الحوار السلمي تصبح الميليشيات خطرا على المجتمع المدني. يظل الصدر لغزا ربما معرضاً للتصفية والاغتيال. هل استخدم الصدر ميليشياه في التصفية الدموية للمدنيين السنة في بغداد؟ لاحق الصدر شخصيا قتلة أبيه. لكن هل هو حقا وراء اغتيال وقتل مئات الأُطُر (الكوادر) الحزبية والعسكرية لنظام البعث. لقد طلبتُ هنا سابقا دعوته لزيارة العواصم العربية. الصدر في الواقع ضد أقلمة العراق وفيدراليته، ضد تقسيمه. مع المحافظة على عروبته. دعته مصر. لم يلبِّ الدعوة. هو يزور سورية أحياناً، وربما أيضاً لبنان حزب الله.

إيران تنطوي على أجوبة عن بعض هذه الأسئلة. خرجت إيران من الحرب الشيعية في العراق أقوى نفوذا وأوسع تورطا في هذا البلد العربي المنكوب. إيران هي التي عقدت اتفاق وقف الحرب التي ساهمت في إشعالها. إيران حاضنة لمعظم الأحزاب الشيعية الحاكمة، ومدرِّبة ومموِّلة ومسلِّحة لميليشياتها.

هل أرادت إيران التخلص من ميليشيا حليفها الصدر المشاغب والمزعج؟ هل سمحت لحليفها ورجلها المالكي بشن الحرب على الصدر لإضعافه في الجنوب، لتمكين حليفها عبد العزيز الحكيم الأكثر ولاء وتبعية، من إقامة الإقليم الشيعي الفيدرالي هناك؟ الحكيم لا يداني الصدر في الشعبية، لكنه أعمق اختراقا برجاله ونفوذه للقوات الحكومية التي هاجمت ميليشيات الصدر.

أسئلة تدخل في إطار الألغاز. لكن الثابت ان الهدف الأول لإيران في العراق هو محو عروبته، واستغلال أخطاء صدام الكارثية ضد الشيعة، ثم أخطاء بوش في غزو العراق، وتسليمه بغباء أميركي منقطع النظير لأحزاب الشيعة الموالية لإيران. تفعل إيران ذلك في غيبوبة عربية شبه تامة عن الفعل والتأثير في العراق. الحضور «العربي» الفاعل كان لـ«القاعدة». لكنه كان حضورا سلبيا بل كارثيا. قتلت «القاعدة» من العراقيين، سنةً وشيعةً، أكثر مما قتلت من الأميركيين. ساهمت مساهمة كبيرة في تمزيق النسيج الاجتماعي، وتدمير اللحمة بين السنة والشيعة.

هذه الحرب الشيعية ليست الأولى. لن تكون الأخيرة. بعد خمس سنوات من تسلم الشيعة حكم العراق بالتعاون مع أميركا الغازية والمحتلة، أثبتت الأحزاب الشيعية ومرجعياتها الدينية إخفاقها الكبير في تشكيل طبقة سياسية حاكمة قادرة على بناء دولة حداثية معاصرة تضمن المساواة بين أبنائها، وقادرة على إقامة نظام يؤمِّن الاستقرار والأمن.

لم يكن الفشل على صعيد السياسة فحسب. بل أخفقت هذه الأحزاب في تشكيل البُنى والأطر الحكومية والبلدية الإدارية. تورط معظمها في فساد مروِّع وسوء إدارة كلف أميركا والعراق مئات مليارات الدولارات. أعطى ذلك كله العراقيين والعرب والعالم انطباعا بأن هدف الإدارة الشيعية هو الإثراء الحرام وغير المشروع، وتحويل العراق الى مزرعة منهوبة.

لماذا تخفق الشيعة العراقية في تشكيل طبقة حكم وإدارة؟ لأن الأحزاب الحاكمة ذات طبيعة ميليشيوية غير مسيَّسة. تربت هذه الأحزاب في حضن إيران وسورية حيث الديمقراطية مغيَّبة أو مشوهة في التطبيق. المرجعيات الدينية لهذه الأحزاب لا تؤمن أصلا بالديمقراطية، ويريد معظمها إقامة دولة دينية على الشاكلة الإيرانية.

أميركا أيضا لعبت دورا سلبيا. غضَّت النظر عن فساد الأحزاب الشيعية. لم تؤهل أميركا وتدرب الأطر الحزبية على الحكم الديمقراطي، كما فعلت مع اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. حكومة المالكي لم تنفذ معظم قوانين «المصالحة» التي أقرها مجلس النواب. سلطة أميركا على هذه الحكومة تتراجع أمام تقدم نفوذ وسلطة إيران المعادية لأية ديمقراطية في العراق.

الدين الذي يعتمد المذهب والطائفة يصبح عاملا سلبيا في تشكيل طبقة سياسية حاكمة أو معارضة. كانت هناك قوى سياسية مؤهلة لتسلم الحكم بعد الغزو، لو أرادت أميركا إقامة نظام مؤقت ينتقل بالعراقيين تدريجيا الى نظام سياسي. المشهد العراقي مزدحم بالعمائم، التعصب المذهبي يحول دون إجراء حوار سلمي بين الطوائف. طبيعة المذهب الشيعي تمنح رجل الدين سلطة شبه «قداسية» على المؤمنين. وهو لذلك يتقدم على أي مسؤول سياسي أو إداري منتخب دستوريا وشعبيا.

أخيرا، لا بد من إضافة سبب آخر، وهو اغتيال أو هرب معظم الأطر الإدارية الرفيعة التي كانت تشكل عصب الإدارة الحكومية وتجربتها وخبرتها في عصر صدام.