لحظة سقوط التمثال

TT

تمر اليوم خمس سنوات على لحظة سقوط التمثال ـ الصنم في ساحة الفردوس من بعد ظهيرة يوم الأربعاء 9 نيسان 2003 بحبلٍ أمريكي الصنع ومجنزرة أمريكية يقودها جندي أمريكي كانت تزأر عندما كانت تجر التمثال من عنقه في مشهد شنقٍ استعراضي، إيذاناً بسقوط النظام على أيدٍ أمريكية صرفة وسط هتافات وزغاريد الملايين من العراقيين الذين أرادوا أن يصنعوا أملاً بحياة جديدة وبحلمٍ متواضع وبسيط لحياة وديعة آمنة بعيدا عن صور الحرب ومعاناتها والحصار الجماعي وقسوته وضغطه ودفن الأحياء في مقابر جماعية وتدمير لكلِ مقومات الحياة في بلدٍ كان يفيض خيره على الآخرين. وأيضاً دموع الملايين من العرب الذين بكى بعضهم على سقوط الرمز الذي أوهمهم طويلاً بأنه صلاح الدين هذه الأمة، فكانت صدمة وذهولا لم يفق منهما الباكون لحد الآن.

وبعد 5 سنوات من الصدمة لا بد أن السكرة قد ذهبت وجاءت الفكرة ولا بد من مراجعة هادئة وعقلانية للذات يقودها مثقفو هذه الأمة والحريصون على مستقبلها ممن تعففت أياديهم من كوبونات النفط التي كان صدام يوزعها على دعاة الثقافة والقومية. هذه المراجعة تنطلق من نقد لمحطات التاريخ مجتمعة وليس فقط محطة سقوط التمثال لنرى كيف كان يُصنّع الصنم ويمجّد ويكبر ويستقوي، ومساهمتنا نحن الرعية في صنعه والتصفيق له، وكيف نحيط مستقبلنا بأسوار وموانع لئلا يتسلل صنمٌ جديد لحياتنا ويحولها إلى رماد كما فعلت أمم وشعوب كثيرة على وجه هذه البسيطة.

مراجعة الذات والتاريخ، قديمه وحديثه، ليست عملية سهلة بل هي من الصعاب لأنها ترتبط بثوابت وحقائق صنعناها نحنُ لأنفسنا وليس من السهولة أن يتجرد عنها البعض لأنها ترقى أحياناً إلى مقدس وهمي، والكثير من الركام الذي كان يمنع أي مراجعة نقدية لظاهرة الأصنام بل وأزمة الحكم في حياة المسلمين عموماً. فقد كان مسموحاً للمواطن في غابر السنين أن يتحدث ويبحث في أي صنف من صنوف العلم والأدب والشعر والفلسفة والفلك والطب، إلا في أمر واحد وهو الحكم وآلياته وقوانينه، فهو من المحرمات التي تستوجب قطع الأعناق والأرزاق والنفي من الدنيا، لذلك ترعرعت أصنام تحت مسمياتٍ وعناوين كثيرة. وقد دهشت من عقيد ليبيا في خطابه في مؤتمر قمة دمشق يدافع عن إعدام صدام وهو يدرك بأن الموج قادم للآخرين ونسي نفسه، ورفضَ أن يقبل أن يحاكم الطغاة والجلادون بينما يُحاكَم الفقير والمواطن العادي وكأن من يتسلل الى السلطة في جنح الظلام له حصانة وعصمة.

هكذا كان الحكام يصنعون الوهم لشعوبهم بالتخدير الديني والقومي والحرب على العدو، وقد كان نظام البعث يملك قدرة متفوقة على خلق هذا العدو الموهوم. فبعد أن تصالح مع إيران في اتفاقية الجزائر فتح النار على سوريا بحجة قطعها الماء عن العراق حتى جاءت كامب ديفيد ليأخذ منها جرعة منشطة لأطروحة الوهم التي كان يروّج لها البعض.

أتصور أن الحوار يمكن أن تقوده فضائية أو فضائيات عربية تُحرك المياه الراكدة لتطرح السؤال الشجاع والجريء عن رؤية أخرى لمعاني سقوط التمثال، غير ثنائية الاحتلال والمقاومة التي سوقها البعض بامتياز وروّج لها بكل قوة لكي يدفع شبابا مغررا بهم إلى حفلات موهومة بقتل جماعي للأبرياء من العراقيين وتحيل ما تبقى من العراق إلى ركام.

من المناسب أن نتلمس معالم الطريق لنسلكه بدل أوهام الشعارات الفارغة التي لم تنتج رغيف خبز أو تبني سقفاً.

* الناطق الرسمي

للحكومة العراقية

يكتب لـ «الشرق الأوسط»