الخيار الصعب في مصر

TT

تعطي الوثائق البريطانية التي تنشرها «الشرق الأوسط» هذه الأيام بعض الملامح من خلال مراسلات السفير البريطاني حول الفترة الصعبة اقتصاديا في الجزء الثاني من السبعينات والتي سبقت توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل وكانت ذروتها ما عرف بمظاهرات يناير التي جاءت احتجاجا على ارتفاع الأسعار.

وفي تلك الفترة كان عبد المنعم القيسوني هو الذي يرأس فريق الحكومة الاقتصادي وهو اقتصادي كان له وزنه وسمعته في ذلك الزمن، وكانت بدايات محاولات تصحيح أوضاع الاقتصاد الخارج من حرب ومرحلة اقتصاد موجه كانت فيه الكثير من الضمانات الاجتماعية جعلت حياة الناس أسهل لكن تكلفتها الحقيقية هي أن جيلا اقترض من حساب الأجيال المقبلة. وكانت المشكلة الكبيرة وقتها عجز الميزانية والاعتمادات الكبيرة التي كانت تخصص لدعم السلع وأوضاع سوق لا تعكس القيمة الحقيقية للسلع والخدمات.

اقتصاديا لم تكن قرارات القيسوني خطأ، لكن الخطأ الذي ارتُكب هو ان الحكومة لم تمهد بشكل كاف الرأي العام لتفهم قراراتها فجاء رد الفعل عنيفا من جانب الشارع.

وجرت مياه كثيرة وقطع الاقتصاد المصري شوطا طويلا في التغيير من أجل تهيئة نفسه لجذب الاستثمارات وخلق البيئة الملائمة للقطاع الخاص لكن كل الحكومات المتعاقبة ظل هاجس مظاهرات يناير يقلقها رغم تغير الظروف والإمكانات.

وبسبب ذلك الهاجس كانت وتيرة الإصلاح والتغييرات تدريجية جدا، مع حرص شديد على تجنب الصدمات، وهو أمر مفهوم ومتوقع لان الإجراءات الاقتصادية لمعالجة الاختلالات ليست مجرد حسابات وأرقام لكنها تتعلق بحياة بشر، والمتفق عليه انه لا توجد حلول سهلة أو سحرية هنا فمسألة إصلاح الاقتصاد أشبه بدواء مر تصاحبه أعراض جانبية من الصعب تجنبها.

لكن «التدرج والحذر» كانا أكثر من اللازم في بعض الفترات التي سمحت فيها الظروف بتحقيق قفزات خاصة في جزء كبير من سنوات التسعينات بدون الخوف من اهتزازات اجتماعية كبيرة وهو ما كان سيسرع عملية الإصلاح، ويجعل الاقتصاد في وضع أقوى خاصة في مواجهة أي أزمات حالية.

خلال السنوات الثلاث الماضية تقريبا أخذت وتيرة الإصلاحات الاقتصادية منحى ثابتا كتفكير وسياسة انعكس في معدلات نمو مرتفعة نسبيا وتدفق كبير للاستثمارات المباشرة القادمة من الخارج مع توليد أكثر من 700 ألف وظيفة جديدة سنويا حسب بعض الاحصاءات، وان كان تحسن مؤشرات الاقتصاد لم تصل نتائجه بشكل مباشر الى قطاعات كبيرة من الناس لأسباب بينها أن فوائد الاقتصاد تحتاج الى وقت.

ولسوء الحظ جاءت الأزمة الحالية القادمة من الخارج كعاصفة اقتصادية تحمل معها مخاطر قطع الطريق نتيجة ارتفاعات الأسعار في السلع الأساسية وما أحدثه ذلك من ضغط معيشي على قطاعات واسعة محدودة الدخل، وتضاعف المبالغ المالية المخصصة لدعمها في الميزانية، وتوترات اجتماعية أعادت هاجس يناير كما حدث في دعوة إضراب يوم الأحد.

ولا توجد حكومة أو نظام يستطيع تجاهل مثل هذه الأمور حتى لو اضطر الى إجراءات يدرك انها ليست صحيحة اقتصاديا، لكن اسوأ خيار يمكن ان تلجأ اليه حكومة في مصر الآن هو التخلي عن قوة الدفع في عملية الإصلاح الاقتصادي، لسبب بسيط هو انه لا يمكن ان يكون هناك مستقبل بدون عمل تراكمي مستمر بدون توقف، والمقصود هنا بالعمل التراكمي هو المحافظة على هدف تحقيق معدلات نمو مرتفعة لفترة متواصلة 10 أو 15 عاما، والعمل على انعكاس ذلك في دخول أوسع شرائح ممكنة بما يوسع طاقة السوق المحلية ويخلق ديناميكية نمو ذاتي يغذي نفسه.