بعد مقدونيا.. البوسنة على حافة تفجير جديد!

TT

بينما تتجه الأنظار إلى مقدونيا التي تقف على شفير الحرب الأهلية، تشهد البوسنة وبوتيرة متسارعة في دائرة من الضبابية والتوتر الحذر، نضوج أزمة سياسية جديدة في البلقان تعيد إلى الذاكرة ملاحظات منتقدي اتفاق دايتون للسلام الذي كانت توصلت إليه أطراف النزاع عام 1995 وتحذيراتهم التي تنبأت بعواقب ومخاطر ستنجم عن إقامة نظام عرقي هش في البوسنة يقوم على أساس تشكيل فيدرالية كرواتية ـ إسلامية وجمهورية للصرب! وكان العديد من المراقبين اعتبروا ان اتفاق دايتون لم يحل ازمة البوسنة، بل خلق الظروف اللازمة لتأجيلها، وما يحدث الآن بعد خمس سنوات من المحاولات والتجارب الفاشلة لإعادة ترميم كيان الدولة، يثبت صحة تلك الاستنتاجات.

ولعل الأمر الأكثر صعوبة في المرحلة الراهنة، هو أن لا أحد يعرف متى ستشتعل شرارة الأزمة التالية في البوسنة، وما إذا كان بمقدور القوات الدولية أو المبعوثين الدوليين وقف انفجار محتمل؟

وبالتأكيد ان قيام الكروات بإعلان رغبتهم بالخروج من الفيدرالية الكرواتية ـ الإسلامية سيثير ألف مشكلة جديدة تزيد من تعقيدات الحالة، ذلك أن انفصال كروات البوسنة سيدق المسمار الأول في نعش الدولة البوسنية ككل.

الكروات يعللون خطواتهم الانفصالية ومطالبتهم بالحكم الذاتي بإجحاف نصوص القانون الانتخابي وتجاهله لحقوقهم المشروعة وتهديده لمصالحهم الوطنية. ومما يزيد تعقيد الوضع، وقوف الكنيسة إلى جانب التيار الانفصالي المتشدد، وقيامها بتزعم الحركة السياسية المتشددة، إذ أعلن القس باتكو بيريتيش أمام اجتماع حاشد شارك فيه 10 آلاف متظاهر في مدينة موستار التاريخية «ان مطالب الكروات البوسنيين عادلة»، وقال «نحن سنخضع للنظام الدولي الجديد بالطبع، إذا لم ينتهك القوانين السماوية أو يتجاهل حقوق شعبنا الطبيعية».

وفي الواقع أن تظاهرة موستار سجلت بداية حركة احتجاج شعبية للتيار الانفصالي في الحركة السياسية للبوسنيين الكروات الذين تنامى دورهم بشكل سريع خلال الأشهر الأخيرة.

وليس من قبيل المبالغة القول بأن أحد الأسباب التي ساهمت في بلورة الأمزجة الانفصالية وتحولها إلى ظاهرة عامة، هي أنه بعد موت الرئيس تودجمان عام 1999، واستبدال النظام الاستبدادي بآخر ديمقراطي، سادت مشاعر لدى كروات البوسنة بالعزلة السياسية والاقتصادية، إذ انهم حظوا خلال ولاية تودجمان بعناية خاصة على الرغم من أنه، أي تودجمان، كان سبب عزلة كرواتيا دولياً! ان الانتخابات التي جرت في البوسنة في خريف العام الماضي حملت تأثيرات كارثية على الكروات، فلقد تراجع نفوذ الحزب الديمقراطي الكرواتي HD2، وتهمش دوره في الحياة السياسية، الأمر الذي جعله يعلن مقاطعته للنظام الفيدرالي وعزمه تشكيل مؤسسات إدارية كرواتية موازية لتلك الرسمية، وأسس ما سماه «المؤتمر الكرواتي» وأناط به مهمة تصنيف وترسيم الأراضي الكرواتية داخل البوسنة، ثم راح يطلق التهديدات بإعلان الحكم الذاتي بقرار انفرادي، إذا ما رفض المجتمع الدولي تعديل دستور البوسنة وتغيير النظام الانتخابي وإزالة تلك النصوص التي تسيء وتضر بالمصالح الوطنية للكروات في الدولة البوسنية! ولم يطل الوقت ليرد الغرب على التطورات المتسارعة، فلقد سارع ممثلو الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى إلى ممارسة ضغط شديد على قيادة الحزب الديمقراطي انتهت بموافقته على صيغة توفيقية تتيح له تشكيل (مكتب خاص) يتولى مهام التنسيق بين هيئات الحكم في المناطق الكرواتية ومؤسسات السلطة الفيدرالية، مشترطاً مواصلته تنفيذ التعهدات والالتزامات المتفق عليها بقيام الهيئات الدولية في فترة لا تتجاوز الشهرين إعادة النظر بالقانون الانتخابي.

وهذا القانون الذي يرفضه الكروات أعدته وصاغت نصوصه منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، حيث ضمنته بنداً ينص على موافقة المسلمين المسبقة عند ترشيح النواب الكروات للمجلس النيابي، وهو برأي الحزب الديمقراطي الكرواتي «استهانة واستصغار لدور الكروات في المؤسسات الفيدرالية». ولقد أثار الموقف الأميركي المؤيد لوجهة النظر الكرواتية، استغراب المجموعة الأوروبية التي اعتبرت تصريحات السفير الأميركي في البوسنة توماس ميلر «تحريضية!»، ولا تساهم في تثبيت الأمن والاستقرار في الدولة، كما لا تخدم العملية السلمية المتأرجحة أصلا! فلقد ذكر ميلر بعد لقاء عقده مع محافظ موستار، قائلا «ادعو القيادة البوسنية إلى الشروع بتغييرات فعلية وسريعة في القانون الانتخابي وبالشكل الذي يتيح للكروات ممارسة دورهم ويضمن حقوق القوميات الثلاث في الدولة»، وأضاف «ابلغت الممثل الدولي بيريتيش بوجود نواقص في المنظومة الدستورية تسيء وتضر بمصالح الكروات»! ويعترف ممثلو الكروات صراحة بأن تمردهم ضد القوانين السائدة ومساعيهم الرامية للحصول على الحكم الذاتي «ليس إلا الخطوة الأولى على طريق الاستقلال التام». وهكذا، فإن التراجع المؤقت من جانب التيار الانفصالي برأي المراقبين، ليس إلا هدنة ستمنع ولو لفترة قصيرة، نشوب نزاع مع المسلمين ينتهي بظهور كيان صغير داخل الدولة البوسنية! ان التأييد الأميركي لمطالب الكروات لم يمنع الممثل الدولي بتريتش من التعامل الحاسم مع التحركات الكرواتية التي اعتبرها انتهاكاً لمبادئ دايتون واصدر قراراً فورياً بإقالة الكرواتي (انتي يالافيتش) من القيادة البوسنية الجماعية عقاباً على نشاطاته وتحركاته الانفصالية، وأوعز إلى قوات «اسفور» الدولية باظهار الحزم في التعامل مع الحالة الراهنة حتى ولو تطلب الأمر استخدام القوة وفرض رقابة صارمة على مستودعات الأسلحة والذخيرة! إذن، الانفجار قادم لا محالة، لكن الغرب يعول الكثير على تأجيل الانفصاليين خططهم لأمد معين ولحين الاستجابة لمطالبهم بتغيير القانون الانتخابي. والشيء المفيد الذي حدث الآن هو دخول الحزب الكرواتي في أزمة نجمت عن انشقاقات داخل المعسكر المتشدد على اعتبار أن هذا سيضعف فرصهم في المناورة والضغط ويمنح الأطراف الغربية في البوسنة متنفساً ووقتاً كافياً للعثور على مخرج للأزمة الراهنة، من خلال تحقيق تنسيق وأشكال من التعاون مع القوى المعتدلة داخل الحزب الديمقراطي الكرواتي، توقف التداعي المتواصل وتتوقف عن المغامرة باتخاذ خطوات ترفع سخونة الأزمة وتنتقل إلى الحوار السياسي الهادئ بعيدا عن الاضواء وبلا تصريحات نارية.

لكن، كل الخيوط والمؤشرات التي تؤطر الوضع داخل البوسنة، لا تزال داخل دائرة ملبدة ومفعمة بالمفاجآت التي تنذر بزيادة التعتيم وكثافة الغيوم في سماء البوسنة، لا سيما أن مفاصل القرار لا تزال بأيدي التيار المتشدد الذي كما يبدو، يجيد اختيار الوقت المناسب لإطلاق شرارة الأزمة التي ظلت حتى الآن مؤجلة.

* كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا