ظهر الفساد في الأرض..!!

TT

لا يكاد يخلو مجتمع بشري على وجه البسيطة اليوم من الفساد والمفسدين.. تلك حقيقة يجب التسليم بها والتسليم لها، وهي حقيقة بسيطة في كلماتها، عميقة في مدلولها، خطيرة في مضمونها، لكن الاقرار بها قد يعين كل من يريد ان يتحدث او يكتب او يبحث في امر الفساد والمفسدين بانواعه وانواعهم واشكاله واشكالهم والوانه والوانهم ومسبباته ومبرراتهم، بعيدا عن أي حساسية او حرج طالما ان جميع مجتمعات الارض غنيها وفقيرها ومتحضرها ومتخلفها هي في هم الفساد والمفسدين سواسية، وليس ادل على ذلك من تقرير عام 2001 لمنظمة الشفافية الدولية التي تتخذ من برلين مقرا لها.. لقد ورد في الخبر الذي نقلته «رويترز» عن التقرير الذي اذيع في باريس منذ عدة ايام، بعض النقاط الجديرة بالاهتمام نوردها كما وردت في تصريح رئيس تلك المنظمة حسب ما جاء في الخبر الذي نشرته جريدة «الحياة» في عددها رقم 13984 الصادر يوم الجمعة الموافق 29 يونيو (حزيران) 2001:

* ان مستويات الفساد عالية في العالم النامي والمتقدم على السواء. هناك ازمة فساد عالمية.

* عدد كبير من الدول المتقدمة ليست في وضع يسمح لها بأن تعظ الدول الفقيرة عن استقامة ونزاهة الحكومات.

* فساد المسؤولين والسياسيين في شكل خاص وصل الى معدلات الازمة.

* اللائحة الجديدة لمفاهيم الفساد توضح مرة اخرى الدائرة المفرغة التي تربط بين الفقر والفساد.

لقد بدأ الحديث عن الفساد في الارض ـ كما يبدو ـ اول ما بدأ عندما اراد الله سبحانه وتعالى ان يجعل في الارض خليفة: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون». (سورة البقرة الآية رقم 30).

ان السياق العام لهذه الآية الكريمة يدل ـ والله اعلم ـ على امرين اثنين; الامر الاول، هو ان ارادة الله نافذة ولا راد لارادته، والامر الثاني هو ان استفسار الملائكة وتساؤلهم جاء حسب معيارهم في النقاء وبمفهومهم للطهر وبالتزامهم بالصفاء وبما جبلوا عليه من خير مطلق لا مكان للشر فيه ولمعرفتهم بأحوال خلق سابقين كما يقول بعض المفسرين، وكذلك بحسب اعتقادهم بأن الغاية الكبرى لهم وللخلق اجمعين هي ان يسبحوا بحمد ربهم ويقدسوا له جلت قدرته، ومن ثم فلا مجال البتة لأي مخلوق ان يؤدي أي عمل او ان يقوم بأي جهد سوى التسبيح بحمد الله والتقديس له جلت قدرته، ولأن بارئ الخلق ومسير الاكوان ومدبرها على علم تام ويقين مطلق بما كان وبما سيكون، جاء الحسم منه جل وعلا: «إني أعلم ما لا تعلمون».

وهذا الحسم الإلهي شمل ـ والله اعلم ـ ما تخوفت منه الملائكة بالنسبة لمن جعله الله جلت قدرته خليفة في الارض من ان يفسد في الارض ويسفك الدماء، وكأن الله تعالى ـ وهو أعلم بمن خلق ـ قد قدر في علمه الازلي بأن من جعله في الارض خليفة يمكن ان يفسد، بل ويسفك الدماء ايضا. والاعجاز هنا هو ان الفساد سبق سفك الدماء في استفسار الملائكة وتساؤلهم مما يشير ـ والله اعلم ـ الى ان الفساد هو السبب الموجب لسفك الدماء، وسفك الدماء هو بلا ريب قمة الفساد في الارض، واشد انواعه تنكيلا بالبشر عندما يأتي بغير وجه حق ويتم بدون مبرر ويرتكب بدم بارد وبظلم شديد.

دعونا الآن نثير بين يدي الموضوع بعض التساؤلات عن الفساد والمفسدين، ومن ذلك:

* هل هناك تعريف محدد للفساد والمفسدين يتفق عليه الجميع؟!.. بمعنى هل هناك مقياس واضح يستطيع الانسان ـ أي انسان ـ استخدامه لمعرفة المفسد من المصلح بحيث يسقط عليه بمعاييره تصرفا او عملا او قولا ليعرف اهو فاسد ام صالح؟!

* وهل الفساد يكون على شكل انطباع يتشكل في الذهن؟! ام ان له من المسببات ما يؤكده؟!، ومن المبررات ما ينشره؟!، ومن الوسائل ما يبثه؟!، ومن السبل ما يوسع دوائره؟!، ومن التأكيدات ما يبينه؟!، ومن الدلائل ما يوضحه؟!، ومن البراهين ما يثبته؟!

* وهل الفساد يقتصر على الافراد فقط ام يشمل الانظمة والدول؟!، وهل تتساوى الدول والانظمة في نسب الفساد ام تتفاوت؟!، وإن تفاوتت فما هي معايير هذا التفاوت؟!، وكيف يمكن التحكم في تلك المعايير، ومن ثم التحكم في حجم الفساد ونوعه ونسبته؟! هذه بعض التساؤلات التي لن يمنع عدم الاجابة عنها لضيق الحيز في هذه العجالة من معرفة القصد من اثارتها، مثلما ان الاجابة عنها تكون بلا شك مدعاة للفهم العميق لمعنى الفساد وانواع المفسدين.

والفساد انواع: فيمكن ان يكون في الخُلق كتبني الابتذال وتلبس الانحلال ومحاربة الفضيلة وبث الرذيلة والجهر بها والدعوة لها فينعكس كل ذلك في سلوك آدمي مشين من خلال خلل في المظهر والمخبر.

كما يبدو الفساد في الفكر من خلال تدمير القيم وتشويه المبادئ، ويكون اكثر المفسدين جرأة وتبجحا ووقاحة وتحديا للاحاسيس واستفزازا للمشاعر هم اولئك الذين يقدمون اعمالا فكرية او ادبية او فنية بأي شكل من اشكال التعبير يتعرضون فيها وبها للثوابت الايمانية للأمة ومقدساتها بالتشكيك والتطاول والاثارة، تارة باسم ديمقراطية الرأي، واخرى باسم حرية التعبير.

كما يظهر الفساد في الارض بما كسبت ايدي الناس من خلال التعامل المعوج بين البشر وفي تصرفاتهم بأي شكل من اشكال الحياة التي يعيشونها.

والفساد يكون ايضا بأكل اموال الناس بالباطل او بالاستيلاء على الاموال العامة بالاختلاس او بالرشوة او بالتحايل او بالخداع او بالغش او بارتكاب ظلم، او بأي صورة من صور التعامل التي تحرمها الاديان وتحاربها النظم وتمنعها القوانين.

ماذا عسانا ان نفعل لمقاومة الفساد؟! علينا ان ندرك بداية:

* ان الفساد نازع من نوازع البشر ووسيلة من وسائل الشيطان لالحاق الضرر بالفرد وبالمجتمع، والعناية ببرامج التربية والتوعية وتعزيز نماذج القدوة الصالحة على ارض الواقع، كل ذلك كفيل باصلاح الاعوجاج في النفس وفي السلوك.

* وطالما ان اجتزاز الفساد من الارض يتطلب تحويل المجتمعات البشرية الى مجتمعات تسكنها ملائكة وهذا من المستحيلات، فإن الواجب يقتضي الاخذ بكل الاسباب التي تسد منافذ الفساد وتجفف منابعه، وكذلك توفير الضمانات الكافية والكفيلة بقطع الطرق على المفسدين والقضاء على وسائلهم ليبقى الفساد محصورا ومحدودا في دوائر ضيقة ومغلقة كي يسلم منه المجتمع ككل.

* كما ان التهاون مع اول بادرة من بوادر الفساد مهما كانت صغيرة وعدم التصدي لها يكون مدعاة لانتشار الفساد وتعميم شروره. لذا يصبح من المحتم على كل مجتمع ان يرصد التحولات فيه والتغيرات في سلوكيات افراده بدقة وبحذر وان يتم التعامل مع بوادر الفساد بحزم وشدة.

* وان تعمل الدول على تنقية نظمها ووسائل تعامل افراد مجتمعاتها وجماعاتها من كل مداخل الفساد وغلقها بإحكام امام المتسللين من ضعاف النفوس من المفسدين والمنحرفين، وانزال اقصى العقوبات بهم.

[email protected]