المقالات الشبابية.. بين إفراط وتفريط

TT

رغم التقدم الإلكتروني في جميع مجالات الحياة واحتواء شبكات الإنتر نت على مواقع طازجة للصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والدورية وغيرها. إلا أن شغف احتواء الصحيفة أو المجلة ومداعبتها وتقليبها باليدين والتنقل بين صفحاتها ما زال عشق أكبر وغرام أسمى بالنسبة لمعظم القراء، لا يماثله تقليب الشاشات الوهاجة العنكبوتية.

ويبدو انه ما زال من المبكر على هذا الجيل هجران الصحافة الورقية، وأنه لا بد من الانتظار ردحا من الزمن حتى يصبح لدينا شاشات حواسيب رقيقة خفيفة سريعة الطي قابلة للرمي وإعادة التدوير.. شاشات شبيهة بالاوراق، نقلبها بين أيدينا في أي مكان حتى ولو كنا مرتمين في مهاجع النوم.

وصحافتنا المقروءة تحتوي على الغث والسمين من المقالات التي يرتقي بعضها الى مصاف البحوث العلمية ذات المتن والهوامش، بينما ينزلق البعض الآخر الى ما يشابه «الأغاني الشبابية» في استرسال فج بلا طعم ولا رائحة ولا تميز.

مقالات لا تزيد بالنسبة لمن يكتبونها عن مورد ثابت للرزق، مثيل لرزق الحكواتي عما يستجره من أحداث وترهات.

ويبدو أن مؤسساتهم الصحفية تتعامل معهم بمنطق مشابه لميزان بائع الخضار، فتشتري منهم بالكلمة والسطر والصفحة.

إفراط في الحشو و إمعان في التكرار، والتحدث بما لا يهم القارئ بنفس الإلحاح والمثابرة.

والأمثلة على مثل ذلك النوع من الكتاب كثيرة «أترك للقارئ الفطن تحديد كاتبه الشبابي».

فنجد الكاتب الهمام يكتب زاوية يومية في أكثر من جريدة، ويكتب زاوية أسبوعية في أكثر من مجلة، ويكتب مقالات متفرقة في المجلات الشهرية والدورية «كده على ما قسم»! وبمعنى آخر نجد أنه هذا الشهر قد ورد للسوق عشرة آلاف سطر والسطر يحتوي تسع كلمات، وهو يحتاج الى الآلة الحاسبة ليحسب محصوله الشهري! فأي إبداع هذا، وأي تميز ننتظره؟

أين يجد الوقت الكافي للكتابة، وقبلها للاطلاع وهضم المعلومات ومن ثم البحث والتقصي قبل أن يطرد ابناءه ويقفل على نفسه باب غرفته. ويدخل في لحظات التبلور والمعاناة، للوصول الى ما يمكن أن يقدمه للقراء المغلوب على أمرهم.

لقد تغيرت تقاليد صاحبة الجلالة «الصحافة» فأصبحت ملاذ من لا ملاذ له، ومنبرا للهذيان.

فإذا سألت الكتاب عن ذلك؟

سيقول بعضهم اني لم أعد أكتب بالنمط القديم! وتستزيده دررا، فيقول انى أمتلك سكرتارية قادرة متمكنة تجمع لي قصاصات الأخبار، ورؤوس المواضيع المهمة وتلخص لي مواضيع الساعة، مما لا يستدعيني عناء الاطلاع أو البحث والتقصي! وسيكون بعضهم أكثر صدقا فيقول.. انني اعمل بروح الفريق، ولدي عدد من المتدربين، والذين يعملون في فريقي لفترات حتى أختبر قدراتهم الصحفية. فنقوم بطرح موضوع معين ويتولى كل منهم على حدة الكتابة فيه بطريقته الخاصة. ثم أقوم باختيار أفضل الطروحات منهم، والتعديل فيه بما يجعله لائقا بان يحمل اسمي الذائع الصيت! وقد تزداد شجاعة أحدهم فيخبرك بأنه يمتلك بعض المتدربين الذين لم يعودوا يمتلكون الحماس الكافي للشهرة. وأنهم اكتفوا بمجرد العيش في كنفه «كمرتزقة» وتقبل الأجر البسيط الذي يقتطعه لهم من مكاسبه الضخمة.

ورغم كل ذلك فهو مجتهد يصيب ويخطئ.

يصيب... فيكتب في بعض الأيام مقالا يهز الوسط الصحفي، ويظل يدور حولـــه أياما وأياما، ويبدع فيه بالتكرار والمط والإعادة، والمناقشة المنبثقة عنه، والحوار المتمسح بأصدائه. حتى يذبل الموضوع فيغدو على نفس الرتم الممل وبكلمات غثة وصوت غير مميز لا تنفع فيه المكبرات الصوتية ولا التكنولوجيا اللحنية والتوزيعية كأكثر أغاني هذا العصر الشبابية! وقد يخطئ، فيتناول موضوعا تافها لا يرقى الى أي مستوى، فينبري أحد القراء بانتقاده.. ويشعر الكاتب المغدور بقلة القيمة.. ويزبد ويغلي وينذر بعظائم الأمور، من بعد ويلات الثبور. وهنا لا يسلم القراء من مقالاته المترتبة على ذلك، والتي تخرج عن الإفادة وتصبح فرصة لتلميع الشخصية التي علاها الصداء.

كما أن بعض الكتاب «الوسطيين» يشعر بل ويُشعر من يقرأ له بأنه قد مل هذا «الاسترسال» المهين.

فيقوم إما باشراك قرائه في زاويته، بمناسبة أو بدون مناسبة، أو بترك جزء من مقاله لمقتطفات يختارها من إبداعات الكتاب أو الشعراء الآخرين، أو من أقوال الساسة والقياديين الأحياء منهم والأموات، وكل ذلك لتعبئة الفراغ الذي لا بد أن يملأ.

أما «بعض» رؤساء التحرير فان حالهم لا يقل بحال عن كتاب الزوايا، بل انهم يقومون بعمل روتيني مرهق ومعجز في نفس الوقت. فمطلوب منهم تبني وجهات النظر الخاصة بمالكي الجريدة أو المجلة حتى ولو تعارضت مع وجهات نظرهم الخاصة.

فنجدهم يبدعون في التحوير والتدوير والتبرير، شأنهم شأن من يغني أغاني الحزن والفرح طوال الوقت على إيقاع واحد لا يتبدل.

كما أنك بمجرد النظر الى الخطوط العريضة في عناوين إصداراتهم، تستطيع تخيل الموضوع الذي سيكتبون فيه في هذا العدد، بل انك إذا كنت متابعا للصحيفة، وبعد قراءة العنوان تستطيع بديهيا تحديد وجهة نظر رئيس التحرير.

وأنا في مقالي هذا لا أحاول أن أشوه الواقع الحالي أو القول بان الماضي كان أفضل، ولكني أرغب ممن نحبهم من كبار الكتاب عدم ركوب موجة المقالات الشبابية، ومحاولة احترام عقلية القارئ الذي لم يعد كالماضي مبهورا بالقشور.

قارئ هذه الأيام يحتاج الى من يداعب مخيلته بفكرة بناءة، وبناء كتابي متناسق، يشعر بعد صعوده بأنه قد حصل على المتعة والمشاغبة العقلية المحببة.

وكم من مقال قام بما عجز عنه السياسيون! وصدقوني أن بعض القراء يتمنى أن يرى في ذات يوم زاوية كاتبه المفضل فارغة، أو بها رسمة، أو نقش زخرفي معين أفضل من مقال راقص لا يخلف بعده إلا زفرة حرى من صدر القارئ ندما على دقائق أهدرها في قراءته.

وصدقوني أن بعض القراء يمتلك الحس الصحفي، والروح الناقدة على أصول النقد العلمية أكثر مما نتصور.

* كاتب سعودي Dr [email protected] هاتف 055457609