الجزائر: إجهاض مسيرة .. وتدعيم مسار

TT

ظهرت الحركة الاحتجاجية التي تدعي تمثيل منطقة القبائل في حجمها الحقيقي يوم الخميس الماضي في ساحة «الوئام» في العاصمة الجزائرية، عندما لم تنجح في جمع أكثر من ثلاثمائة شخص، حملوا لافتات سوداء تشير إلى عدد من ولايات القطر من دون إثبات صحة التمثيل، ذلك تحت نظرات لا مبالية من سكان المناطق المحيطة بالميدان، مؤكدة أن سكان العاصمة، التي تضم نحو أربعة ملايين نسمة، يرفضون منطقهم، وهم مستعدون لمواجهتهم إذا خرجوا عن النظام.

والذي حدث هو أن مسيرة الخراب السابقة، التي حركتها أيد مشبوهة، استفزت في الجزائريين كرامتهم وعزتهم، واستنفرت رفضهم لعودة الجزائر لوضعية الطائرة المختطفة.

وتصاعدت عملية الرفض الشعبي عبر الولايات الثماني والأربعين، خاصة عندما بدأت بعض عمليات تخريب مشبوهة في بعض النواحي، كان واضحاً أن وراءها إرادة إثبات أن ما حدث في منطقة القبائل هو انتفاضة ضد نظام الحكم، قام بها رواد، ومن الطبيعي أن يسير وراءهم الجميع.

وهكذا كان يوم الخميس هو ساعة الحقيقة التي ينتظرها الجزائريون ليحددوا موقفهم من السلطة على ضوء تعاملها مع التتار الجدد، بعد أن قاموا هم بواجبهم.

وبدا واضحاً أن الرئيس، الذي قدم أكثر من دليل على إرادته في الحوار، وإلى درجة الانحناء أمام العاصفة، ليس مستعداً للمساومة على هيبة الدولة.

ومنعت كل مسيرة في العاصمة، يجلب لها أشخاص من ولايات أخرى، وفي الوقت نفسه أعلن عن أن وزير الخارجية الجزائرية قدم للبرلمان الأدلة على صور التورط المسجلة. ولم يكن الشعب الجزائري في حاجة للتفاصيل، فقد تابع التشنج الجنوني لمعظم محطات التلفزة الفرنسية، التي كانت تصب الزيت على النار بالأكاذيب والمبالغات والتفسيرات المغرضة للأحداث. وبدا تحمس المراجع الفرنسية لمنطقة بعينها استفزازا لنفس سكان المنطقة، فقد قدمتهم وسائل الإعلام الفرنسية كحصان طروادة، وهم الذين كانوا منارة للإسلام وقلعة للوطنية.

يوم الخميس تنفس الجزائريون الصعداء، إذ أحسوا بأن رئيسهم سجل انتصاراً جديداً سيمكنه من مواصلة البرنامج الذي وعدهم به، للخروج بالبلاد من الأزمة الدموية وتداعياتها السياسية والاقتصادية، كما أحسوا بأن المستعمر السابق تلقى صفعة شعبية علنية، إذ لم يتضامن أحد مع المتظاهرين، رغم كل المآخذ الشعبية على السلطة، وتأكد أنهم يمثلون منطقة معزولة، حيث أن السلطات لم تغلق إلا طريقاً واحدا وتركت كل الطرق نحو العاصمة مفتوحة. أكثر من ذلك، نجحت مقاطعة المواطنين التلقائية لبعض الصحف الجزائرية الناطقة بالفرنسية.

والواقع هو أن بوتفليقة أدهش من لا يعرفونه بمقدرته على إفساد مؤامرات خصومه، الذين كانوا يراهنون على اختلال توازنه وعدم قدرته على التحكم في أعصابه، وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث لحاكم، خصوصاً في الظروف الاستثنائية.

حدثت المراهنة الأولى على أعصاب بوتفليقة عشية الانتخابات الرئاسية، في أبريل (نيسان) 1999، عندما انسحب خصومه الستة من الانتخابات، وربما كان رهان المخططين هو أن تفلت أعصاب الرجل، فيعلن الانسحاب، ويضطر رئيس الجمهورية آنذاك، اليمين زروال، إلى إعلان تأجيل الانتخابات لعدم وجود مرشحين، وعندها يعلن المرشحون أن بلاغ انسحابهم لم يكن رسمياً، ويكون من العسير بالطبع على بوتفليقة أن يتراجع، وهكذا تحدث عملية انقلابية بيضاء يطلب فيها إلى خمسة من المرشحين في الجولة الأولى التكتل وراء سادس، ويفرض الأمر على من يرفض التفاهم، لكن بوتفليقة نجح في الصمود، وإن لم ينجح، طوال الأشهر التالية، في التخلص من المرارة التي أصيب بها، ومنافسوه، الفرسان، كما أسماهم خلال الحملة الانتخابية، يفسدون عليه وعلى البلاد كلها عرسا ينهي مرحلة المأتم والخراب. ولم يسترح إلا عندما أجرى الاستفتاء على قانون الوئام المدني، مؤكدا للجميع أن الشعب معه.

لكن أسوأ ما حدث هو أن الساحة السياسية حرمت من شخصيات لها وزنها، كان يمكن أن تمارس المعارضة الذكية التي تكون دعماً لسلطة الدولة، حتى ولو تناقضت مع سلطة الحكومة، ولقد كنت متحمساً لعودة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي للساحة.

ولقد كان واضحاً أن إصرار الرئيس على إتمام عملية المصالحة الوطنية هو استفزاز لكل القوى التي لا ترى لنفسها وجوداً في غير مراحل الفتنة، خصوصاً أن الرئيس مارس طوال السنة الأولى من ولايته سياسة خارجية نشطة أعطت الشعور بأنه يحاول أن يقوم بعملية التفاف من الخارج حول الداخل، وهو ما أقلق بعض القوى التي كانت تريده رئيساً مدجناً.

ومارس الرئيس سياسة التعامل مع الشعب مباشرة، مستفزاً بذلك عدداً من حلفائه، كانوا يشعرون بمرارة تجاهله لهم واتخاذه القرارات من دون استشارتهم، وهو للأمانة، ما كان يرضي شرائح شعبية كثيرة، كانت تتناقض مع بعض القيادات الحزبية، أو تشكك في شرعية تمثيلها للقواعد الشعبية التي تتحدث باسمها.

لكن دخول الوئام سنته الثانية كان إنذاراً لخصوم سياسة الوئام، ولكل الذين كانوا يريدون فشل بوتفليقة، ويعملون على ذلك.

ويحقق الرئيس انتصاراً ثانياً، فالمذابح التي حدثت في العام الثاني من ولايته لم تنجح، رغم بشاعتها، في اجهاض الوئام المدني، كما لم تنجح عمليات الاستعداء التي قامت بها بعض الصحف الخاصة لإقناع المواطنين بأن «التائبين» تراجعوا عن توبتهم، وبأن الاستئصال هو السياسة الناجحة.

وتعاطف الكثيرون مع مسار الرئيس.

وتأتي أحداث أبريل 2001، وكان الرهان دائما هو مقدرة بوتفليقة على التحكم في أعصابه، فقد تصاعدت وتيرة التوتر في منطقة القبائل تحديداً، وكان عود الثقاب الذي أشعل الأحداث هو مقتل شاب قبائلي في مركز الدرك الوطني، تعاملت معه السلطات المعنية بحجم كبير من اللاوعي والتخبط، وبدأت كرة الثلج في التضخم.

كان ذلك في نفس الشهر الذي أعلن فيه الرئيس الجزائري عن مخطط لإنعاش الاقتصاد، يستفيد من الدخل الإضافي الناتج عن ارتفاع أسعار النفط.

وكانت أهمية هذا المخطط هو أنه سيلقي في الساحة الجزائرية بحوالي ستة مليارات دولار، من المؤكد أن آثارها الإيجابية ستمتص الكثير من حالة القلق الاجتماعي التي بدأت في التعبير عن نفسها، بعد أن زال الخوف الأكبر من الإرهاب، وهو أمر إيجابي في حد ذاته، يؤكد نجاح سياسة الوئام.

وكانت قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة قد انتعشت، بعد أن تبلورت فكرة زيارة الرئيس الجزائري لواشنطن قبل الأحداث. وكانت الدبلوماسية الجزائرية قد بدأت في مد الجسور مع كل العواصم المهمة في الفضاء السياسي المتوسطي والأفريقي والعربي، بعد النجاح الذي حققته الوساطة بين اريتريا وإثيوبيا، والتي كانت نتيجة لنجاح مؤتمر القمة الأفريقي في الجزائر في يونيو (حزيران) 1999.

وربما كانت خلفية الجسور التي مدتها الجزائر مع الدول الأوروبية إشارة إنذار تقول لباريس بأن عهد الوصاية انتهى، وتقول لأوروبا، على وجه التحديد، بأن الطريق إلى الجزائر لا يحتاج إلى المرور بأي عاصمة أخرى، ولم تكن الجسور الجديدة مما يمكن أن يشعر باريس بالارتياح.

ولم يكن هناك وطني جزائري يتصور بأن الهدوء الموجود على الساحة هو تسليم بالأمر الواقع، وهكذا كان كثيرون ينتظرون شيئاً ما، يشبه أحداث أكتوبر 1988، التي وقعت بعد إغلاق المدرسة الفرنسية في الجزائر.

لكن السلطة، لسبب ما، لم تحسن استباق الأحداث والتعامل معها.

وربّ ضارة نافعة، فلقد تأكد أن الحزبين السياسيين اللذين احتكرا الحديث باسم منطقة القبائل ليسا بالقوة والأهمية التي حاولا دائما اضفاءها على نفسيهما، وينطبق الأمر بصفة خاصة على التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (الذي اتهمه وزير الداخلية بالتحريض على التخريب، وواضح أن الحزب، الذي لم يحصل على مقعد واحد في انتخابات 1991، كان يحاول ركوب الموجة، بعد أن انسحب وزراؤه من الحكومة عندما تصوروا أن الباخرة ستغرق).

وربما كان من أخطاء السلطة في التعامل مع المنطقة أنها لم تفتح جسوراً مع حزب حسين آيت أحمد، الممثل التاريخي للقبائل، لمجرد أنها لم تغفر له مواقف معادية متعددة، من أهمها توقيعه للعقد الوطني في روما عام 1995. وربما كان من الأخطاء تجاهل دور التيار الديني، لعدم إغضاب حزب ينادي باللائكية.

وردد كثيرون بأن الرئيس دلل بعضهم أكثر من اللازم، خاصة في ما يتعلق بالمقاعد الحكومية، أو بالتنكر لحلفائه الطبيعيين وللخط العربي الإسلامي.

ويجد الرئيس نفسه اليوم في وضعية قوة، يجب أن يستثمرها لمواجهة الوضعية بحزم أكثر، لاسترجاع هيبة الدولة التي فقدتها خلال الأحداث، وليسترجع هو ما فقده من حماسة في الأشهر الأخيرة، لكن كثيرين يرون بأن تعديل الدستور يجب أن يكون آخر ما يقوم به الرئيس وليس البداية.

ويحس الوطنيون أن قوة الرئيس اليوم هي الرهان الحقيقي للخروج النهائي من الأزمة، ولعلهم ينتظرون من الرئيس تفهما أكثر لمطالبهم العادلة.

* وزير الإعلام والثقافة السابق في الجزائر