حكاية الشاب والعجوز

TT

ان كنت تظن ان النفاق عادة اعلامية عربية لا يمارسها غير الاعلام العربي، فانت مخطئ، وسوف اسوق لك قصة طازجة عن نفاق الاعلام الغربي من خلال أشهر صحفه، لكن ـ بالله عليك ـ لا تفهمها على انها دفاع عن نفاق الاعلام العربي ولا من باب «ما حدا أحسن من حدا» فالنفاق معيب عربيا وغربيا والمنافقون اخوان الشياطين بكل الجنسيات واللغات.

والقصة النفاقية الطازجة تجدها امس في جريدة «صنداي تايمز» البريطانية على اربعة اعمدة في الصفحة الأولى، وهي عن عملية قلب اجريت في مانشستر لعجوز مسكينة كانت بالصدفة قريبة للعقيد القذافي واسمها أنيسة.

والى هنا والخبر لا غبار عليه، فكل المرضى العرب وغير العرب يتعالجون ويدفعون، ويرحلون دون ان يصبحوا قصة انتقادية على الصفحات الأولى، لكن في حالة قريبة القذافي كان لا بد من تضخيم القصة ومن خلط الخبر بالرأي ـ وهذا غير جائز مهنيا ـ لكنهم فعلوه لغاية في نفس يعقوب وليقولوا في الخبر المخلوط ان اهل الشرطية ايفون فلتشر غير سعداء باجراء هذه العملية للسيدة انيسة، وان ليبياً يقضي عقوبة بالسجن عن جريمة اسقاط طائرة لوكربي.

ويظهر هذا النفاق على حقيقته حين تعلم انت ـ وكانت «صنداي تايمز» تعلم ـ ان السيد احمد قذاف الدم ابن عم الزعيم الليبي وساعده الأيمن كان في لندن الخميس الماضي كضيف شرف علني في مؤتمر اقتصادي للاستثمار المشترك بين ليبيا وبريطانيا.

لقد تبختر السيد قذاف الدم على مزاجه في «الهايدبارك» و«بارك لين»، وتصدر مائدة المؤتمر الاقتصادي في فندق «رويال جاردن» بوصفه منسق التعاون الدولي في اللجنة العامة للاتصالات الخارجية، وكان مع قذاف الدم اكثر من وزير ومسؤول ليبي كبير، وكل هؤلاء لم تجد فيهم «صنداي تايمز» ما يستحق الاعتراض لكنها لم تخجل من الاعتراض الفج على علاج عجوز ليبية تجاوزت السبعين من عمرها.

والقصد لا يخفى على اللبيب من اخفاء قصة زيارة ابن عم العقيد الشاب، وابراز خبر علاج قريبته العجوز، ففي الحالة الأولى هناك قوى اقتصادية مؤثرة ستعترض على تخريب الاستثمارات البريطانية في وقت الكساد بذلك الأسلوب اللامسؤول، وفي الحالة الثانية الهدف سهل واستدرار عواطف اهل ضحايا لوكربي لا يحتاج اكثر من جملة خبيثة هذا اذا لم يظهر غدا من يستثير عواطف الواقفين في طابور العمليات في المستشفيات البريطانية بالقول ان قريبة القذافي قفزت فوق الطابور وأثرت بفلوسها ـ 11.934 استرلينيا تكاليف العملية ـ على حياة مواطنين بريطانيين كانوا ينتظرون دورهم، وعرضتهم للخطر بالوقت الذي استغرقته عمليتها على يد طبيب القلب الشهير داني كينان.

ان قصة «صنداي تايمز» عن قريبة القذافي المنشورة في عدد يوم امس تليق بـ«الصن»، ولو نشرت هناك لما كان الاعتراض وارداً فالصحافة الشعبية لها اسلوبها الخاص في تناول الأخبار. اما ان تظهر تلك القصة وتضخم في اشهر صحف الأحد الرصينة وتختفي قصص زيارات قذاف الدم وعشرات المسؤولين الليبيين، فذلك هو النفاق بعينه.

واذا عرف السبب بطل العجب، ونحن هنا لم نتعجب لاننا نعرف عشرات القصص المماثلة، انما أردنا فقط توثيق هذه الواقعة ليتأملها أولئك الذين يروجون لحياد الاعلام الغربي، ومصداقيته.