نظام عربي جديد جداً؟!

TT

كما توقعنا انعقدت القمة العربية وانفضَّت، وذهبت كما حدث لقمم قبلها إلى زوايا النسيان، وعادت كل الأطراف التي شاركت والتي لم تشارك إلى جدول الأعمال الذي تراه مهماً لمصالحها. وفي أي الأحوال، فإن الجميع حافظوا على شعرة معاوية، فلم يقاطع أحد القمة حقاً ـ ما عدا لبنان ـ حتى ولو خفض مستويات التمثيل الى أدنى درجة، وترك ذلك مساحة إعلامية للادعاء بأن أحدا لم يغب عن الوصول الى دمشق. واستطاع العقيد القذافي الذي لم يكن أبدا من هواة القمم أن يملأ الفراغ الإعلامي، أما الفراغ السياسي فقد بقيَّ على حاله لأن السياسة العربية مكانها ليست في اجتماعات القمة، ولكن في مواقع أخرى بعضها يقع داخل المنطقة العربية وبعضها الآخر خارجها. وإذا كان الحاضرون الى القمة من القادة قد جعلوها قمة للتضامن، أما من غابوا فجعلوها قمة للشقاق، فإن الحقيقة أن القمة لم يكن لا فيها تضامن يمكن الحديث فيه، ولا شقاق يمكن النقل عنه، فقد عاد العالم العربي الى ما كان عليه، وما غير ذلك سوف يعطي لاجتماع دمشق أكثر كثيرا مما يستحق.

ومع ذلك، فإن لحظة اجتماع القمة كانت وقفة للتأمل في النظام العربي كله الذي حافظ على الجامعة العربية واجتماع قمتها طوال عقد مضى، وجعل ذلك إطارا قانونيا وشرعيا من نوع ما لجماعة الدول العربية بحيث تجعل لها مكانا خاصا يجعلها تختلف عن جماعات قارية أخرى مثل الدول الأفريقية، أو العابرة للقارات مثل الدول الإسلامية. ولم تكن الجامعة العربية هي الرباط الوحيد حيث كانت القضية الفلسطينية وتفريعاتها المختلفة خاصة بعد احتلال أراضي دول عربية أخرى بعد هزيمة يونيو(حزيران) 1967 هي الرابطة السياسية التي اجتمع عندها العرب وتفرقوا أيضا. وبالتأكيد كانت هناك بعض من الروابط الثقافية والاقتصادية الأخرى، ولكن أيا منها لم يبلغ أبدا الكتلة الحرجة التي تجعل النظام العربي ينتقل من حال الى حال كما جرى من قبل بين دول الجماعة الأوروبية.

وكانت النتيجة هي رابطة عربية واهنة للغاية، فلم تتكون شبكة من الروابط السياسية الكافية لكي تنسق المصالح وتجمع الأهداف وتحدد أولوياتها، ولا كانت هناك شبكات أخرى تقوم بنفس المهمة وتقلل من تأثيرات صراعات ومنافسات تاريخية كانت كلها جاثمة على نفس الدولة العربية الحديثة. وبشكل ما أصبحت هذه الرابطة الواهنة تؤدي الغرض، فهي رابطة بالقدر الذي يرضي التواقين الى وحدة العرب؛ وهي واهنة بالقدر الذي يرضي المصالح العربية المنفردة. وهكذا جرت اجتماعات الجامعة بأشكال طارئة أو منتظمة، ولكن لم يحدث أن ضحت دولة بمصلحة مباشرة من أجل دول عربية أخرى.

ولكن المعضلة الآن، أن ما كان صالحاً لعقود سابقة صار كذبة صريحة عند أجيال عربية جديدة يريد بعضها أن يأخذ الأمة كلها في اتجاهات راديكالية وعنيفة، ويريد بعضها الآخر أن يأخذها الى حيث توجد بقية العالم في تنمية وتقدم. وربما لا يكون هذا الانقسام جديدا، ولكن الجديد فيه ليس فقط في الأجيال التي تتبناه، وإنما لأن المعادلة القديمة أصبحت سقيمة للغاية. وبصراحة لم يعد هناك ما يدعو دولا عربية مستقرة وغنية؛ أو دولا عربية مستقرة ومتقدمة، أو دولا عربية تنمو على درجات التقدم الاقتصادي والاجتماعي بسرعات غير معهودة، الى الوجود في نفس النادي من الدول التي تجعل عنوانها في التطور التاريخي هو الوصول الى درجة الدول الفاشلة. وبصراحة أكثر، فإنه لم يعد هناك ما يدعو دولا تعيش في حالة من السلام والتبادل الاقتصادي الكثيف مع دول العالم المختلفة لكي تبقى جنبا الى جنب مع دول مصممة على البقاء في حالة من المواجهة مع دول العالم المختلفة.

هنا، فإننا لا نتحدث عمن معه الحق أو من يجانبه الصواب، فالخطأ والصواب، والحلال والحرام، في الأمور السياسية، كلها تقررها المجتمعات المختلفة حسب ما تراه صالحا لها. وبالتأكيد أنه من حق سوريا أو من حق ليبيا أو حزب الله في لبنان أو حماس في فلسطين أن يقرروا ما يرونه من قرارات طالما أنها تخص شعوبهم وبلادهم حيث ستكون هناك حسابات التاريخ في النهاية. ولكن ليس من حق هؤلاء أن يقرروا مصير شعوب ودول أخرى سواء ما تعلق بأمور الحرب والسلام في المنطقة أو العلاقات مع دول العالم الأخرى شرقها وغربها. ولا يمكن أن يرتكن النظام العربي كله على تحركات دولة أو مجموعة من الدول تصيب النظام العربي كله وهنا على وهن لأن حساباتها كانت خاطئة، وقياداتها كانت غارقة في خطيئة الفشل في الحساب السياسي. وفي الستينات كان التدخل المصري في اليمن. وفي السبعينات كان التدخل السوري في لبنان. وفي الثمانينات كان التدخل العراقي في إيران. وفي التسعينات كان التدخل العراقي في الكويت. ومع القرن الجديد، انسحبت سوريا من لبنان ولكنها عادت إليه بوسائل أخرى. وفي كل هذه التدخلات كان النظام العربي يتمزق مرتين؛ مرة لأن دولة عربية أضيرت عند التدخل فيها من جانب دولة عربية أخرى؛ ومرة لأن الدولة العربية التي تدخلت سوف تخلق غضبا دوليا كافيا لكي ينزل عقاب كبير تدفع الدولة ثمنه ومعه بقية العرب أيضا.

كل ذلك لا داعيَّ لتكراره مرة أخرى. وعندما أرادت أوروبا أن تخلق تاريخا جديدا، فإن ست دول فقط اجتمعت على أولويات معلومة في سياستها الخارجية، وأمورها الداخلية، وطريقتها في إدارة علاقاتها مع بعضها بعضا. وبعد نصف قرن تقريبا، فإن الستة أصبحوا 27 دولة ولكن بقيَّ أربعة من الكبار (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا) ـ يفكرون ويدبرون معاً كيف ستسير الأمور في المستقبل بعد التشاور مع آخرين ممن يملكون نفس التوجه في إسبانيا وهولندا وبولندا. هذه الكتلة هي التي قررت سياسات التوجه نحو تعميق الاتحاد الأوروبي. وكانت هي التي حددت مدى التوسع في المنظمة الأوروبية. وكانت هي التي أبقت خطوط التواصل مفتوحة دوماً مع الولايات المتحدة سواء بأشكال ثنائية أو جماعية أو من خلال حلف الأطلنطي؛ وكانت هي ذاتها التي حافظت على خطوط وروابط مع روسيا حتى تتخلص من باقي نظمها السابقة في العهود الشيوعية والقيصرية أيضاً.

هل نستطيع أن نقيم نظاماً عربياً جديداً على مجموعة محدودة من الدول «المعتدلة» التي وقفت دوما ضد التوسع الإسرائيلي. وكانت هي التي دفعته في اتجاه الانسحاب؛ وكانت هي التي حجمت من عدوان دول عربية على دول عربية أخرى تحت دعاوى شتى، وهي في النهاية الدول التي يستند اليها الراديكاليون بعد وقوع الكارثة؟ والإجابة هي بالإيجاب عندما تتخلص هذه الدول من خجل «الاعتدال»، وعندما تكون على استعداد للتخلص من منافسات صبيانية. وعندما تخلق شبكة كثيفة للتفاهم الاستراتيجي على مستقبل المنطقة. وعندما تعرف أنها ما لم تتحرك فسوف تعطي الفرصة لقوى أخرى للحركة غير العاقلة. المسألة باختصار أن الشرق الأوسط، والمنطقة العربية في قلبه، من المناطق القلقة في العالم. وفي مثل هذه المناطق توجد فراغات استراتيجية هائلة إما أن يتم التعامل معها بالسياسة، أو أن هناك كثرة تريد ملءها بالعنف والثورة. وبعد القمة العربية، فإن الفرصة سانحة قبل أن تتحرك الزلازل وتوابعها في لبنان وفلسطين والعراق؛ فالمنطقة حُبْلَى بأحداثٍ جسامٍ، وطوبَى لمن كان في المكان الصحيح ساعة الميلاد!!