العطر (الرومانسي)

TT

وصلت إلى مطار الرياض أسحب خلفي حقيبتي العزيزة على عجلاتها الأنيقة ـ وعلى فكرة ـ (لو سمحتم وكان عندكم وقت) أريد أن أعرفكم على حقيبتي تلك، فهي من الكبر بحيث أستطيع أن أضع بها من الملابس والغيارات ما يكفيني ثلاثة أيام بلياليها دون إزعاج أو حاجة للغسيل أو التنظيف، كما أنها من الصغر بحيث أنها (ستاندر) ومسموح لها بالدخول للطائرة، وخفيفة الدم والوزن إلى درجة أنني أستطيع بكل سهولة أن أضّمها إلى صدري، ثم أحملها، ثم أسمّي عليها وأرفعها وأضعها بكل حنان على الرف فوق رأسي، وتظل طوال الرحلة هادئة لا تتحرك كأي قطة أليفة.

إنها تبلغ خمسة عشر ربيعاً من عمرها، لونها أخضر (كاكي) لا تتأثر بالمطر، صابرة صبورة لا تشكو ولا تتبرّم من كثرة أسفاري وتنقلاتي وضياعي، تتحمّل الهّزات والخبّطات (والكحتات)، وهي باختصار (لايقة عليّ وأنا لايق عليها).

خرجت من المطار واتجهت إلى أول سيارة أجرة، فقابلني سائقها مرحبا مهّللا وفتح الشنطة الخلفية لسيارته ومد يده ليخطف حقيبتي ويقذف بها داخلها، غير أنني منعته متشبثاً بها، ووضعتها بجانبي على المقعد وفتحت لها الشّباك لكي تتفرّج وتشم الهواء ـ أرجوكم لا تتعجبوا من تصرفاتي هذه، لأنني أعاملها فعلا كأي كائن حي.

انطلقنا، وما هي إلاّ دقائق معدودة، وإذا بالسائق يضع شريطا مسجلا دون أن يستأذن أو يأخذ رأيي. فكرت أن أنهره وأطلب منه إغلاق المسجّل، غير أنني بعد أن شاهدت سعادته المفرطة، وتجاوبه مع تلك الأغنية بهز رأسه وأحياناً كتفيه، جعلني استسلم وأتركه وشأنه.

وأخذت أنصت لا شعورياً لكلمات الأغنية، وإذا بالمطرب العاشق يوجه كلامه (للتاكسي)، قائلا له:

يالتاكسي خذني لها يالتاكسي/ وبسكتك خلنا نمر نأخذ عطر (رومانسي)

مشتاقة حبيبتي مشتاقة/ خذني لها بسرعة لا أسوي شيء في نفسي

قلت له: لا مانع عندي من أن نستمع لتلك الأغنية سوياً، ولكنني لاحظت أنك للمّرة الثالثة على التوالي ترفع الصوت، وكلما رفعته زدت في سرعة السيارة أكثر، هل هذا كله من شدّة الطرب، أو من شدّة الشوق للمحبوبة؟!

خجل مني وخفض الصوت والسرعة قليلا، والتفت لي وأخذ يكلمني وعينه في عيني، وصحت به قائلا: أرجوك تكلم وانظر للطريق أمامك. استسلم وهو يقول: عن أي حبيبة أنت تتكلم؟ أنا ما عندي إلاّ (أم العيال)، سألته: يعني ألا تستحق الزوجة أن تكون حبيبة؟!، قال: والله ما أدري، هذه مسألة عويصة.

سألته: هل تعرف الحب (الرومانسي)؟!، قال: لا ما أعرفه ولم أسمع به إلاّ من هذه الأغنية، قلت له: إنه بشكل أو بآخر (الحب العذري)، عندما سمع تفسيري هذا ما كان منه إلاّ أن ينفجر ضاحكاً وهو يردد شطر بيت الشعر هذا:

(ما تنفع الحبّة بليّاشوف) ـ أي أن القبلة أو البوسة ليس بها نفع إذا كانت في الهواء أو بواسطة التلفون ـ، ويمكن سبحان الله يكون معه بعض الحق في ذلك، عندها قلت له: آه منك يا (نمس)، كنت أظن إنني الوحيد في زماني.

وعدت أسأله: إذن ماذا حببك في هذه الأغنية؟!، قال أولا: وردت بها كلمة (التاكسي)، وثانياً: قبل شهر تقريباً ركبت معي ثلاث نساء جلسن بالمقعد الخلفي الذي تجلس أنت عليه، وبالصدفة وإذا بهذه الأغنية تذاع من (الإف إم)، وإذا بي أشاهدهن (بالمراية) وهن يتمايلن طرباً عليها وهن جالسات، بل إن واحدة منهن كانت أكثرهن حماسة، ووزنها (الله يجيرك) لا يقل بدون مبالغة عن وزن جاموسة، ومن يومها اشتريت هذه الأغنية، ولا يركب زبون معي إلاّ وأشغّلها له.

وحانت مني التفاتة إلى حقيبتي (الفصعونة) فتفاجأت بها هي الأخرى تهز، فربت على ظهرها بلطف قائلا لها: عيب، اختشي.

[email protected]