انتصار للقوة وليس للعدل

TT

هل تعد محاكمة سلوبودان ميلوسوفيتش في لاهاي انتصاراً للعدل أم للقوة؟

لا نريد أن نقلل من شأن تلك الخطوة، خاصة أنها المرة الأولى التي يحاكم فيها رئيس دولة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية، الأمر الذي يجعلها سابقة جديرة بالحفاوة والتقدير. وحين يكون المتهم شخصاً مثل ميلوسوفيتش يتحمل المسؤولية عن ابادة أكثر من 200 ألف مسلم في البوسنة، فان الحفاوة من جانبنا بمحاكمته والقصاص منه ينبغي أن تتضاعف. غير أن ذلك ينبغي أن لا يمنعنا من محاولة فهم المشهد والتثبت من دوافعه، خصوصاً أن الجرائم التي ارتكبت ضد المسلمين في البوسنة يتحمل كثيرون مسؤوليتها، ثم أن هناك جرائم أخرى ترتكب ضد الانسانية في أماكن أخرى للمسلمين فيها النصيب الأكبر، ولم يحرك أحد الدعوى ضد القتلة فيها، وأكثرهم ذوو مناصب رفيعة ويتصدرون الواجهات السياسية، وكان ينبغي أن يمثلوا أمام العدالة لكي تقتص بدورها منهم.

لقد وقعت عشرات الحروب خلال نصف القرن الماضي، إلا أنه لم يحدث منذ محاكمات نورمبرج وطوكيو في أعقاب الحرب العالمية الثانية ان أحيل إلى المحاكمة بمقتضى القانون الدولي أشخاص وجهت إليهم اتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الانسان في تلك الحروب. وهو الوضع الذي تغير في عام 1993 حين انشئت محكمة الجرائم الدولية ليوغوسلافيا (سابقاً) برعاية الأمم المتحدة، لمقاضاة أولئك الذين اتهموا بانتهاكات حقوق الانسان في حرب البوسنة. وفي العام التالي انشئت محكمة مماثلة للنظر في الانتهاكات التي وقعت في رواندا (البحث مستمر في شأن انشاء محكمتين للمسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في كمبوديا وسيراليون).

بعد انشاء محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا، واختيار لاهاي مقراً لها، أعلنت قائمة بأسماء 75 متهماً مطلوباً للعدالة، ولكنها لم تتحصل الا على ثمانية متهمين فحسب، وظل 67 متهماً طلقاء. بل لم تتوفر للمحكمة سوى صور لـ 24 شخصاً فقط، بينما بقيت وجوه المتهمين الآخرين مجهولة. وظلت المشكلة التي واجهت المحكمة ان المتهمين يعيشون في دول أخرى، وانها لا تملك أي سلطة تنفيذية للقبض عليهم، الأمر الذي جعل مهمة استدعائهم منوطة بأطراف أخرى، لا تملك المحكمة أي سلطان عليهم.

في الوقت ذاته فان التقاعس كان واضحاً في عملية القاء القبض على المتهمين، من جانب قوات حلف الأطلنطي الموجودة هناك، وكذلك من جانب الولايات المتحدة. فقد نشرت الصحف في 96/6/10 من سراييفو ان قادة قوات حلف الأطلنطي المكلفة بتنفيذ اتفاق السلام في البوسنة لن يتعقبوا الصرب المتهمين بارتكاب جرائم الحرب. وجاء ذلك التصريح بعد وقت قصير من اعلان قائمة أسماء المتهمين المطلوبين للمثول أمام محكمة لاهاي. وفي محاولة لتغطية موقف قادة حلف الأطلنطي فانهم ذكروا انهم مستعدون للتعاون مع جهود المحكمة الدولية اذا ماسمح بذلك الوضع «التكتيكي»، لكنهم لن يحاولوا ملاحقة المطلوبين إذا كان ذلك يشكل «خطورة» على القوات الدولية.

في الوقت ذاته فان بعض الصحف الغربية كشفت عن أن المتهمين المطلوبين للمحكمة يتحركون بحرية كبيرة، تحت سمع وبصر قوات حلف الأطلنطي. فنشرت صحيفة «الجارديان» البريطانية مقالة لرئيس التجمع الديمقراطي في البرلمان الأوروبي جياس دوفريز، قال فيها ان أحد الجنرالات الكروات المطلوبين للعدالة الدولية تمت ترقيته ومنح وساماً رفيعاً في بلده، وان شخصاً آخر من مجرمي الحرب المطلوبين يعيش في قرية «دنياسلاتينا» التي لاتبعد سوى أربع دقائق بالسيارة عن قاعدة حلف الأطلنطي (كامب كولت) التي تضم ألف جندي أمريكي. والطريق الذي يمر به الرجل يومياً تستخدمها دوريات الحلف بشكل روتيني، لكن أحداً لا يعترض سبيله.

أكثر من ذلك، ذكر دوفريز في مقالته ان القوات الدولية (ايفور) سارعت إلى مغادرة مقر مجرم الحرب المطلوب الجنرال راتكو ميلاديتش، بعد أن علمت أنه موجود بداخله، وكانت قد قررت تفتيش المكان بحثاً عن الأسلحة غير المرخصة فيه. كما أنه في 96/12/10 التقت قوة من البوليس الدولي في البوسنة بمجرم الحرب المطلوب رادوفان كاراديتش في مدينة «باليه» ولم تتخذ أي اجراء لاعتقاله.

لقد تندرت «مجلة نيوزويك» في أحد أعدادها الصادرة في عام 96 على الزعم بأن كاراديتش يتعذر القبض عليه لأنه لا يعرف له عنوان، فقالت إن عدم العثور عليه في «باليه» هو مثل الذهاب إلى ساحة القديس بطرس والاخفاق في رؤية مبنى الفاتيكان. لأن الجميع كانوا يعرفون مقر اقامته، لكنهم يتعامون عنه، لأنهم لم يكونوا يريدون وقتئذ تقديمه للمحاكمة.

ورغم ان قيادة حلف الأطلنطي والبيت الأبيض وضعا في موقف حرج حين نشر «تحالف العدالة الدولية» في عام 96، وهو مجموعة أهلية خاصة، قائمة بعناوين 36 شخصاً من مجرمي الحرب المطلوبين، الذين قيل أن أحداً لا يعرف عناوينهم، إلا أن أحداً من هؤلاء لم يتم القبض عليه في حينه لذات السبب، المتمثل في أن القوى الكبرى لم تكن قد قررت بعد أن تأخذ الأمر على محمل الجد.

يلفت النظر في هذا الصدد أنه رغم أن محكمة جرائم الحرب أصبحت أمراً واقعاً منذ عام 94، إلا أنه من بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (185 دولة) لم تصدر سوى عشرين دولة فقط تشريعات تخول سلطاتها المختصة التعاون مع المحكمة.

وكان ذلك التقاعس أو الاعتراض أحد الأسباب التي عوقت ملاحقة المسؤولين عن عمليات الابادة في البوسنة.

ما أريد أن أخلص اليه من ذلك كله أن التعامل مع مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة كان دائماً محكوماً باعتبارات السياسة وليس باعتبارات العدالة. تلك السياسة التي فرضت من البداية (في سبتمبر/أيلول عام 1991م) حظراً على تصدير السلاح إلى يوغوسلافيا السابقة، الأمر الذي منع البوسنة رسمياً من الدفاع عن نفسها أمام العدوان الصربي، وكان ذلك بحد ذاته انتهاكاً لأحد الحقوق التي قررها ميثاق الأمم المتحدة للشعوب التي تتعرض للعدوان. وحين تم تجريد الطرف البوسنوي الضعيف من السلاح فان ذلك يسَّر عمليات الابادة الجماعية والتطهير العرقي، التي يحاكم بسببها ميلوسوفيتش وغيره من مجرمي تلك الحرب اليائسة.

كان ذلك القرار تواطؤا غريباً استمر حتى وقعت مذابح سريبرينتسا رغم انها اعتبرت «ملاذاً آمناً» بقرار دولي، وقد تبين فيما بعد أن الوحدة الفرنسية التابعة للقوات الدولية هناك تواطأت مع الصرب لتيسير اقتحام المدينة وابادة أهلها، الذين قتل منهم 6500 شخص في يوم واحد.

لم يكشف الستار بعد عن حقيقة الدور الذي قامت به الدول الغربية، انجلترا وفرنسا واليونان والولايات المتحدة بوجه أخص، في التواطؤ على البوسنة وتنفيذ الجريمة الكبرى بحق أهلها. إذ ليس خافياً ان الرئيس ميلوسوفيتش وزبانيته ما كان لهم أن يفعلوا ما فعلوه إلا إذا كانوا مطمئنين إلى أن ظهرهم مؤمَّن بدرجة أو أخرى، وان ثمة غطاء يسمح لهم بالتحرك ولو إلى حدود معينة. وحين يكتب تاريخ ما جرى ويكشف النقاب عن وقائعه ووثائقه، فان قائمة مجرمي تلك الحرب ستتضاعف لا ريب، وسيدرك الجميع ان مايجري الآن في لاهاي سياسة ارتدت قناع العدالة وانتحلت مسوحها.

في عدد «نيوزويك» الأخير (10 يوليو/تموز) مقالة افتتاحية مهمة حول الموضوع، كتبها فريد زكريا، استشهد فيها بمقولة لأحد مؤرخي الاغريق، ثوسيدايس، قرر فيها ان «معايير العدالة تعتمد على القدرة على الارغام، والأقوياء يفعلون ما لديهم من القوة لفعله، والضعفاء يقبلون ما يجب أن يقبلوه»، وخلص من ذلك إلى أن العدالة لا معنى لها من دون قوة في نهاية المطاف، وان محكمة لاهاي كان يمكن أن تظل بدون فاعلية واتهاماتها لا قيمة لها لولا ان القت واشنطون بثقلها في الموضوع وقررت منع المساعدة المالية عن يوغوسلافيا ما لم يودع ميلوسوفيتش السجن في هولندا، وحين تم ذلك فان القوة هي التي حققت العدل، وليس المثل النبيلة المجردة ولا الحق في ذاته.

وأشار الكاتب إلى مفارقة اراد أن يعزز بها رؤيته، ففي اليوم السابق لتسليم ميلوسوفيتش كانت محكمة العدل الدولية قد أدانت الولايات المتحدة وقررت انها انتهكت القانون الدولي حين نفذت حكم الاعدام في اثنين من المواطنين الألمان في عام 99 دون أن تتيح لهم طلب المساعدة من سفارة بلدهم. أكثر من ذلك فان الولايات المتحدة كانت قد تجاهلت في وقت سابق قراراً لمحكمة العدل طلب في اللحظة الأخيرة وقف تنفيذ الحكم.

لقد استكثرت واشنطون ان تحدد لها محكمة في لاهاي ما يجب أن تفعله، فضربت بقراراتها عرض الحائط. ذلك أن الأقوياء يرسلون ولا يستقبلون ويصدرون الأوامر ولا يمتثلون لأمر أحد، حتى إذا كان ذلك «الأحد» هو صوت العدل ومحكمته.

تجيب مقالة «نيوزويك» على سؤالنا حول ما إذا كانت محاكمة ميلوسوفيتش انتصاراً للعدل أم للقوة، وتقول بصريح العبارة انه لا مجال لاحقاق الحق واقامة العدل، ما لم تتوفر القوة التي تساندها. وفي العلاقات الدولية فان القوة تتحرى المصلحة بالدرجة الأولى، واذا ما وجدت ان المصلحة تتعارض مع مقتضى العدل فانها لا تتردد في الالتزام بها والاطاحة بالعدل، كما حدث في حالة الألمانيين اللذين اعدمتهما الولايات المتحدة، وفي حالات أخرى كثيرة نعرفها جيداً في العالم العربي.

ان القوة حين تصبح هي الحكم والفيصل في القرن الحادي وعشرين، فاننا بذلك لن نكون قد ابتعدنا كثيراً عن شريعة الغاب، التي لم تقم إلا على منطق القوة.

هل يفيدنا ذلك في النظر إلى محاكمة شارون في بلجيكا؟ ـ ربما.