من قال إن شيئا يموت؟

TT

منذ أيام شهدت حفلا موسيقيا بدار الأوبرا بالقاهرة. وكانت المفاجأة الغامرة: سيمفونية «العالم الجديد» للموسيقار التشيكي فورجاك.. آه لو سمعتني أقول طول الوقت: الله.. الله يا أستاذ.. الله.. لو كنت أستطيع أن أكتب عبارات لها مثل هذا الجمال والدلال.. لو كانت أصابعي «دود القز» وكلماتي حريراً. الله يا أستاذ..

وفي صمت أقول: آه.. آه يا زمن.. ماذا فعلت؟

فأول هدية تلقيتها من صديقة إيطالية كانت أسطوانة لموسيقى فورجاك. وبحسن ظن شديد تلقيت هذه الأسطوانة بالبريد وتحطمت بين أيدي سعاة البريد. ولا تزال الأسطوانة محطمة منذ خمسين عاماً.. لا فتحت الخطاب ولا جرؤت أن أعرف ما الذي قالته فاتنة روما. وأذكر أنني حملت الأسطوانة جثة هامدة محطمة إلى صديقي د. مصطفى خليل وكان وقتها وزيراً للمواصلات ولا أعرف ما الذي كنت أحمله: إنه شيء أغلى وأعز من أي شيء آخر ولم أعرف ولا أذكر الآن ما الذي قاله الوزير ولا ماذا قلت..

وكنت أقول: إنني لا أفهم نظرية النسبية وعندما أقول مثل هذه العبارة فليس معناها أنني حاولت وفشلت. أبداً فلست مؤهلا لمثل هذه العبارة. فقليلون في الدنيا من يقولون إنهم يفهمون هذه النظريات التي تقول إن الزمن ينحني وينكسر، ولا أعرف كيف، ولكن في تلك الليلة في دار الأوبرا انكسر الزمن وسحبني إلى الوراء خمسين عاماً والتف حول عنقي حول قلبي.. ولا أعرف كيف جعلني أذناً كبيرة تسمع.. ثم كيف جعل أذني وعيني شيئاً واحداً: فأنا أرى وأسمع معاً.. أي أنا أرى وأسمع.. وأسمع وأرى.. كيف ارتد الزمن.. كيف سحبني امتصني.. تماماً كالثقوب السوداء التي تمتص ملايين النجوم.. وتمتص أشعتها أيضاً.. ولذلك تبدو فجوات سودا فجوات بألوف ملايين الكيلومترات. كل ذلك وأكثر حدث وأنا استمع إلى موسيقى فورجاك وأقوم بإحياء الماضي الذي ظننته قد مضى وانقضى، ولكن لا شيء يموت ولا شيء يفني. وفي تلك الليلة حزنت أنني فهمت نظرية النسبية!