.. كما تمم العينَ إنسانُها

TT

أنا من الجيل الذي غنى بحماس بالغ مع عبد الوهاب: «اعملوا تنولوا.. واهتفوا وقولوا: السودان لمصر ومصر للسودان!»، وغالبا كانت هذه الأنشودة هي آخر ما غنى عبد الوهاب في حكاية «وحدة وادي النيل»، بل ربما كانت الخاتمة التي اختفى بعدها تدريجيا ذلك الأمل الذي ظل منشودا لسنوات، ولا أدري ما إذا كانت حركة 23/7/1952 قد تعمدت استئصاله من الوجدان الشعبي، أم أنه قد انكمش ثم ذوى بفعل العواصف المناخية. الذي استطيع أن أحدده هو أن الوحدة مع السودان ظلت حتى السنة الأولى من قيام 23/7/1952 من أبرز قضايا مصر الوطنية، وأن مصر كانت شغفا سودانيا لم يتوان عن إعلان فرحته بزوال العهد الملكي في مصر مغنيا: «ملكنا كيف حاله.. ليش بطل اشغاله.. وهرب من بلده.. محمد نجيب شاله.. إلخ».

أذكر أنه كانت هناك على الخريطة الجغرافية عبارة «السودان المصري الإنجليزي»، وكنا ننكرها قائلين: «السودان لا مصري ولا إنجليزي.. ولكن مصر والسودان أخوان متحدان!» وكانت الإشارة إلى أن الملك: «ملك مصر والسودان»، لا تعني احتلال مصر للسودان، كما كان يحلو للبعض أن يروج، ولكنها كانت تعني «وحدة القطرين» التي غمرها شعر الشعراء بغزليات التحليل والتوصيف، وكان من أشهرها قصيدة أحمد شوقي، التي غنتها أم كلثوم، في الأربعينيات، تحت عنوان «السودان»، وتبدأ: «وقى الأرض شر مقاديره.. لطيف السماء ورحمانها.. ونجى الكنانة من فتنة.. تهددت النيل نيرانها»، غير أن العنوان الأصلي الذي نجده في «الشوقيات» هو «اعتداء»، فقد نظمها شوقي تهنئة بمناسبة نجاة سعد زغلول باشا من محاولة لاغتياله عام 1924، وكان سعد زغلول على رأس الوزارة المصرية يومئذ وقد اعتزم السفر إلى إنجلترا للمفاوضة مع حكومتها حول استقلال مصر وأحقيتها في قناة السويس ووحدة مصر والسودان، ولأن البعض كان يخشى تفريط سعد في المسألتين، وهذا البعض كان من بينهم ذلك الشاب الذي تهور في محاولة قتل سعد، والسيدة هدى شعراوي التي أشارت في مذكراتها إلى قلقها على السودان معلنة: «.. ظهر سوء نية الإنجليز وصاروا يعملون علنا على سلبنا حريتنا وإذلالنا.. فهم يعملون الآن على سلخ السودان من مصر، وهو لها بمثابة الروح للجسد.. »، وقد اختلف ترتيب أبيات قصيدة شوقي الأصلية وتغيرت بعض كلماتها عن قصيدة السودان، تلك التي غنتها أم كلثوم فيما بعد والتي حفظناها جميعا من فمها، نرددها وراءها بخفقان قلب المحبين: «ولن نرتضي أن تقد القناة.. ويبتر من مصر سودانها.. وحجتنا فيهما كالصباح.. وليس بمعييك تبيانها.. فمصر الرياض وسودانها.. عيون الرياض وخلجانها.. وما هو ماء ولكنه.. وريد الحياة وشريانها.. تمم مصر ينابيعه.. كما تمم العين إنسانها.. وأهلوه منذ جرى ماؤه.. عشيرة مصر وجيرانها».

عشت عمري كله أتمنى زيارة السودان. في عام 1953، وأنا طالبة في الثقافة العامة بمدرسة العباسية الثانوية، كانت هناك رحلة مدرسية إلى السودان لم يستطع أحد أن يشارك فيها إلا خمس طالبات من المدرسة كلها، لأن الاشتراك كان يتطلب 15 جنيها لم تكن بحوزة أحد إلا بنات التجار، وبما أنني مع صديقاتي والغالبية كنا من بنات المثقفين وأهل التربية والتعليم فظللنا نتحرق شوقا، ولم أتمكن من زيارة السودان إلا صيف 1996. شعرت وأنا أطل من غرفة الفندق على صفحة النيل الأزرق، الممتدة عريضة بين الشاطئين، والمتدفقة سريعة رغم حمل الطمي الثقيل نحو الشمال، نحو مصر، شعرت أنني في بيتي وفاضت بي مشاعر الحب الفياض. يقولون لي: أهلا بك في السودان، فأقول: أهلا بكم في السودان. لم أكن أجامل أو أمارس البراعة اللفظية وأنا أقول: هنا وادي النيل المكون من اسم واحد له مقطعان «مصر والسودان».

في واد مدني، أثناء زيارة مشروع الجزيرة وخلاوي تحفيظ القرآن الكريم، جمع خلوة، كانت الصبايا النحيفات الرشيقات الوسيمات ملتفات حولي، وحين قلت يا ناس أموت عطشا ألا أجد كوب ماء في أرض النيلين الأزرق والأبيض؟ جرت أكثر النحيفات نحافة وأحضرت لي كوبا مثلجا ممتلئا بماء يتراوح لونه بين البني والرمادي، ترددت في تجرع الكوب. قالت الصبايا: اشربي قلت: كوب ماء النيل بطميه؟ قلن: بخيره، هكذا نحن نشربه! قلت: أنتن تشربنه وما دمت معكن سأشربه. وشربته دفعة واحدة ولسان حالي يردد، يقولون إذا كنت في روما افعل كما يفعل الرومان فلماذا لا أقول إذا كنت في واد مدني، فاشرب كما يشرب أهلها؟

وسرت أغني: بطميه بطميه، فما هو ماء ولكنه.. وريد الحياة وشريانها.

هذه كلها شجون تداعت على قلبي، وأنا أتلقى عناوين أخبار دائرة أسمعها حول «وحدة السودان».

ما معنى ذلك؟ هل هي معركة بعضه مع بعضه، مثل مرض زيادة المناعة حين تهاجم خلايا الجسم بعضها البعض، وتحطم نفسها بنفسها؟ ما كل هذا الغم يا ربي؟

ربما كان من الأجدر بي الآن أن أنشد أبيات شوقي القديمة بتعديلات هذا الزمان: وقى الأرض شر مقاديره.. لطيف السماء ورحمانها.. ونجى السودان من فتنة.. تهددت النيل نيرانها.. يسيل على قرن شيطانها.. عقيق الدماء وعقيانها». والعقيان هو الذهب، وشوقي هنا يصف دماء الضحايا السائلة التي تشبه حمرتها وقيمتها الغالية: العقيق والعقيان!