النقاش الذي نحتاجه حول الأمن القومي

TT

إن النقاش القومي الذي طال التنبؤ به حول سياسات الأمن القومي لم يحدث حتى الآن. فقد تغلبت قضايا تكتيكية في جوهرها على أهم التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة، والذي يتمثل في كيفية الوصول إلى نظام عالمي جديد في ظل ثلاث ثورات متزامنة تحدث في أماكن مختلفة حول العالم. وتشمل هذه الثورات كلاً من التحول في نظام الدولة التقليدي بأوروبا، وتحدي الإسلام الراديكالي للمفاهيم التاريخية للسيادة، وانتقال مركز جاذبية الشؤون الدولية من المحيط الأطلسي إلى المحيطين الهادي والهندي.

ويعتقد معظم الناس أن التحرر من سحر السياسة الأحادية التي يزعم البعض أن الرئيس بوش يتبعها هو جوهر الخلافات بين أوروبا وأميركا. وسريعاً ما سوف يتضح بعد تغيير الإدارة الأميركية أن الاختلاف الجوهري بين الولايات المتحدة وأوروبا يكمن في كون الأولى دولة قومية تقليدية يستجيب شعبها لنداءات التضحية من أجل المصلحة القومية أكثر مما تستجيب الشعوب الأوروبية.

ووافقت الدول الأوروبية، التي أعيتها حربين عالميتين، على انتقال مظاهر هامة لسيادتها إلى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، أثبتت الولاءات السياسية للدول القومية عدم قابليتها للتحول الأوتوماتيكي. وتمر أوروبا الآن بمرحلة انتقالية بين ماضيها، الذي تسعى للتغلب عليه، ومستقبل لم تصل إليه حتى الآن.

وفي غضون ذلك، طرأ تحول على طبيعة الدولة الأوروبية، والتي لم تعد ترى نفسها من خلال مستقبل واضح المعالم. ومع عدم وضوح جدوى التحام الاتحاد الأوروبي، قلت قدرة معظم الحكومات الأوروبية على مطالبة شعوبها بالتضحية بدرجة كبيرة.

واتضح هذا الموقف في الخلاف الذي نشأ حول استخدام قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قام مجلس شمال الأطلسي، بدون أي طلب من الولايات المتحدة، بتفعيل المادة الخامسة من معاهدة الناتو، مطالبا بتقديم العون المشترك. إلا أنه عندما بدأت قوات الحلف في تولي المسؤوليات العسكرية، أجبرت بعض القيود الداخلية العديد من الحلفاء على الحد من عدد قواتها وتقليص المهام التي قد تعرض حياة قواتها للخطر.

ونتيجة لذلك، فإن التحالف الأطلسي بدأ في تطوير نظام ثنائي يتمثل في تحالف «حسب الطلب» لا تتلاءم فيه قدرته على الفعل الجماعي مع التزاماته العامة. وبمرور الوقت، سيجد التحالف الأطلسى نفسه مضطراً إلى الاختيار بين إعادة تعريف التزاماته العامة، أو تقديم توضيح رسمي لنظام ثنائي تنسجم فيه التزاماته السياسية مع قدراته العسكرية. وقد يمكن تحقيق ذلك عن طريق توكيل مهمة مشروعات خارجية إلى قوة رد فعل أوروبية، والتي ستتمكن من إنشاء حلف خاص من الراغبين في الانضمام إليه.

وتقلص الدور التقليدي للدولة في أوروبا نتيجة لاختيار حكومات الدول، في الوقت الذي كان فيه الدور المتناقص للدولة في الشرق الأوسط أمراً متأصلاً في نشأتها. وأنشأت القوى المنتصرة في نهاية الحرب العالمية الأولى الدول التي خلفت الإمبراطورية العثمانية. وعلى خلاف الدول الأوروبية، لم تعكس حدود تلك الدول اختلافات عرقية أو لغوية، بل عكست التوازنات التي حققتها القوى الأوروبية في صراعاتها خارج المنطقة.

واليوم يمثل الإسلام الراديكالي تهديداً لبنية الدول، التي تعاني أساساً من الضعف، من خلال تقديم تفسير متطرف للاسلام كأساس لمنظمة سياسية عالمية.

ويرفض الإسلام الراديكالي حق المطالبة بالسيادة الدولية، والمبني على نماذج لدول علمانية. كما يمتد نفوذ الإسلام الراديكالي ليشمل كل المناطق التي يدين فيها عدد كبير من السكان بالدين الإسلامي. ولا يرى الإسلاميون شرعية في النظام الدولي أو البنية الداخلية للدول القائمة. وبذلك لا تدع الآيديولوجية الراديكالية مجالاً كافياً لدخول الأفكار الغربية عن التفاوض أو التوازن في منطقة حيوية لأمن ورخاء الدول الصناعية.

إن هذا الصراع مستوطن، ونحن لا نملك خيار الانسحاب منه. وإذا انسحبنا من مكان ما، مثل العراق، فسيكون ذلك من أجل التزام آخر بالمقاومة من مواقع جديدة، والتي من المحتمل أن تكبدنا خسائر أكثر من تلك التي تكبدناها في العراق. فحتى المؤيدون للانسحاب الأحادي الجانب يتحدثون عن الاحتفاظ بالقوات المتبقية للحيلولة دون انبعاث جديد للقاعدة أو الراديكالية.

وتحدث هذه التحولات على خلفية اتجاه ثالث، يتمثل في انتقال مركز جاذبية الشؤون الدولية من المحيط الأطلسي إلى المحيطين الهادي والهندي.

وفي مفارقة عجيبة، فإن إعادة توزيع القوة قد شمل جزءاً من العالم لا يزال تسيطر عليه خصائص الدول الأوروبية التقليدية. وتنظر الدول الآسيوية الكبرى، وهي الصين واليابان والهند، وربما إندونيسيا مع مرور الوقت، بعضها إلى بعض على غرار ما فعل المشاركون في توازن القوة الأوروبي، كمتنافسين بالفطرة. وذلك على الرغم من مشاركتهم معا ـ من حين لآخر ـ في مغامرات تتطلب تعاوناً.

وفي الماضي، عادة ما كانت تؤدي مثل هذه التحولات في هيكل القوة إلى نشوب حرب، كما حدث عند ظهور ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر. ويرجع صعود الصين اليوم إلى هذا الدور، وذلك في ظل تفسير مثير للمخاوف. ومن الصحيح أن العلاقات الصينية ـ الأميركية سوف تنطوي حتماً على عناصر سياسية جغرافية وتنافسية تقليدية، والتي يجب عدم إهمالها. إلا أن هناك عناصر مناوئة، وتشمل العولمة الاقتصادية والمالية والحاجات المتعلقة بالبيئة والطاقة، علاوة على القوة المدمرة للأسلحة الحديثة، تتطلب مجهودات كبيرة على صعيد التعاون الدولي، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين. ووجود علاقة خصومة سيترك كلاً من البلدين في الوضع الذي كانت عليه أوروبا في أعقاب الحربين العالميتين.

ولم تضطر أي من الأجيال السابقة إلى التعامل مع ثورات مختلفة تحدث في أوقات متزامنة في أنحاء متفرقة من العالم. فالبحث عن علاج وحيد وشامل أمر خيالي. ويتلاءم المجتمع المدني في أوروبا مع البنية السياسية للدول، ولكنه حتى الآن، لا ينسجم مع البنية السياسية للاتحاد الأوروبي.

أما بالنسبة للشرق الأوسط، فيتشكل المجتمع المدني من خلال قوى تعمل من وراء الحدود القومية وتختلف مع البنية الداخلية للعديد من الدول. ففي منطقة الأطلسي، يتمثل التحدي في إنشاء مؤسسات من شأنها أن تحدث توازناً بين الرغبة في التضحية من أجل المستقبل، ومتطلبات إقامة نظام دولي. وفي العالم الإسلامي، فإن الجهاديين مستعدون للتضحية بكل أفكار المجتمع المدني من أجل السعي وراء اليوتوبيا التي يسعون لتحقيقها.

أما في آسيا، ففي ما يتعلق بالدبلوماسية الكلاسيكية، سيعمل أمران على تحديد دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، وهما العلاقة بين الدول الآسيوية الكبرى، وهي الصين والهند واليابان، وربما إندونيسيا، وأسلوب تعامل الولايات المتحدة والصين مع بعضهما البعض.

وفي عالم تؤيد فيه القوة العظمى الوحيدة امتيازات الدولة القومية، وتظل فيه أوروبا عالقة في منتصف الطريق، ولا يلائم الشرق الأوسط نموذج الدولة القومية، بل يواجه ثورة ذات دوافع دينية، ولا تزال الدول القومية في جنوب وشرق آسيا تمارس توازن القوة، فما هي طبيعة النظام العالمي القادر على احتواء هذه الرؤى المختلفة؟

وهل تكفي المنظمات الدولية القائمة لتحقيق هذا الغرض؟ وإذا كان الجواب هو لا، فما التغييرات المطلوبة؟ وما الأهداف التي تستطيع أميركا أن تضعها بواقعية لنفسها وللمجتمع العالمي؟ هل نستطيع أن نجعل تحولات الدول الكبرى شرطاً للتقدم؟ أم هل نحن في حاجة إلى التركيز على أهداف تتطلب مجهودات أقل؟ ما الأهداف التي ينبغي أن نسعى لتحقيقها بشكل جماعي؟ وما الظروف القاهرة التي قد تبرر القيام بعمل أحادي الجانب؟ وما هو شكل القيادة التي قد تستطيع تحقيق هذه الأهداف؟ هذا هو نوع النقاش الذي نحتاجه، وليس الشعارات التي ترددها بعض الأطراف من أجل جذب انتباه الصحف.

* وزير الخارجية الأميركي الأسبق

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفيس»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»