الإعلام العربي.. سوء فهم أم سوء نية؟

TT

قد تكون معركة البصرة أنظف معركة على الإطلاق خاضتها الحكومة العراقية ضد خصومها. وكنا نأمل في أن يرفع بياض صفحتها هذا أي مجال للبس، ويقطع الطريق على المتربصين، سواء أكانوا سياسيين أم من الذين اعتادوا خلط الأوراق لجر الآخرين وتخليص أنفسهم..

وهي معركة قادها رئيس الوزراء بنفسه ضد عصابات ومجموعات مسلحة يفترض ان يكون أكثر عناصرها من نفس الطائفة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء نفسه، فلا مجال إذن لحرب طائفية..

وهي معركة ضد عصابات عاتية عاثت في الأرض، حتى ضج أهل البصرة من إجرامها، وقد تم توثيق ذلك في جميع وسائل الإعلام. وكانت «صولة الفرسان» عراقية خالصة، بحيث انتقد رئيس الوزراء من قبل البريطانيين والأمريكيين وبعض المحللين العرب والعراقيين لأنه لم يستشر أحدا من هؤلاء قبل تنفيذها. ويبدو أن حرصه على عدم خلط الأوراق وتفويت الفرصة على مجيدي استخدام الشعارات في معاركهم مع الآخرين هو الذي دفعه الى التكتم على العملية، بل ومطالبة القوات المتعددة الجنسيات فيما بعد بعدم التدخل. كما شكلت العملية فرصة لاختبار القوات العراقية ليس فقط على مستوى الأداء العسكري وانما على مستوى أدائها الوطني وانضباطها العسكري.

ورغم تساقط بعض الأفراد الذين هللت لسقوطهم عدد من الفضائيات وبالغت في وصفه، إلا انه امر كان بصورة عامة اقل من الحد المتوقع، بل انها، وكما عبر رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نفسه، كانت فرصة لاكتشاف هؤلاء والتخلص منهم.

إن الشيء اللافت هو ان الكثير من وسائل الاعلام العربية وحتى بعض المحللين العرب وبعض العراقيين سلكوا نفس مسلك السياسيين المتضررين من بسط سلطة الدولة والقانون في البصرة وغيرها. وحتى نكون اكثر صراحة وتحديدا نشير إلى قنوات بعينها، فمثلا أطالت إحدى القنوات الفضائية الحديث عن أهداف الحملة السياسية ومحاولة إقصاء تيار ضد آخر، وغير ذلك من الأقاويل التي لا تخلو من التناقض الداخلي في كثير من الأحيان بسبب عدم اعتمادها على قاعدة منطقية سليمة، فإذا كان الهدف من الحملة هو إقصاء تيار دون آخر كما يزعم هؤلاء، فنحن نتساءل: متى كانت معركة مثل هذه كافية لاستئصال تيار شعبي بهذه السعة، كما تؤكد هذه المصادر نفسها. ان التيارات الشعبية لا يمكن إقصاؤها بأي طريقة إلا إذا عملت هي على إقصاء نفسها من خلال سلوكها السياسي او الاجتماعي.

لقد عمدت هذه القناة الفضائية الى عدم الإصغاء الى الواقع الذي يقول إن البصرة تستغيث لإنقاذها من براثن العصابات والجماعات المسلحة. أما قناة فضائية أخرى فقد قدمت سلسلة تقارير قبيل الشروع بعملية «صولة الفرسان» عن انهيار الوضع الأمني في البصرة وأخذه على الحكومة عدم تحركها لإنقاذ ما تبقى من البصرة وأهلها وثرواتها.

إذن أين تكمن المشكلة؟

هل كان على الحكومة ورئيسها بالذات السكوت وعدم القيام بأي عمل يزعج العصابات ويهدد أرزاقها، وتترك البصرة تحت رحمتهم ؟!

هل كان عليه ان يستخدم قوات «الاحتلال» بدل القوات العراقية ويستشيرها مثلا قبل الشروع بالعملية؟! أم ان التوقيت كان غير صحيح، بحيث لو جرت العملية نفسها في وقت آخر سواء أكان سابقا لهذا التوقيت ام متأخرا عنه لتحول المعترضون مثلا إلى مؤيدين أو محايدين على الأقل؟

هل المشكلة ان رئيس الوزراء غامر بخطوة غير مدروسة فأتت النتائج معاكسة كما يذهب بعض المحللين الغربيين؟! فيكون الاعتراض في هذه الحالة نتيجة حرص مثلا على هيبة الدولة؟ وهذا ما اثبت الواقع خلافه، فقد حققت العمليات في البصرة نجاحا كبيرا سواء على مستوى العراق عموما أو البصرة بالذات، التي تحركت لأول مرة ضد هذه العصابات وهتفت في مظاهرات واسعة ما زالت تخرج إلى الشوارع يوميا تأييداً لقيادة رئيس الوزراء ولعملية فرض القانون، كما ان موانئ البصرة طهّرت جميعا من دنس العصابات التي فر عناصرها إلى مناطق أخرى ما زالت القوات العراقية تتعقبهم فيها.

إنها المرة الأولى التي تتحطم فيها حواجز الطائفية والعنصرية والأسوار التي شيدت طيلة هذه الفترة، لتتسع دائرة التأييد لرئيس الوزراء، فتتجاوز طائفة او قومية بعينها، الى الطوائف والقوميات الأخرى، من العرب والكرد والتركمان، والسنة والشيعة، وكل المكونات العراقية الأخرى.

لقد أخذت القيادة السياسية تتخلص تدريجيا من شرنقة الطائفية والعنصرية، وربما تكون العملية الوحيدة التي لم تقسم العراقيين طائفيا ولا قوميا ولا دينيا، وبالرغم من انقسام البعض سياسيا، إلا ان هذا الأمر طبيعي ولا خوف منه.

إن ما حدث من التفاف شعبي وعشائري وديني وحتى سياسي من جميع الكتل السياسية بما فيها الكتل التي اعتادت معارضة خطوات رئيس الحكومة، رغم الضغط الإعلامي الذي حاول سوق الأحداث باتجاه آخر، شيء ينعش الأمل ويفتح آفاقا جديده نحو مستقبل العراق.

وشكل بيان المجلس السياسي للأمن الوطني الذي يضم، فضلا عن الهيئة الرئاسية ورئيس الوزراء، قادة الكتل السياسية، بارقة أمل باحتمال إعادة اصطفاف الطبقة السياسية في البلاد على أساس وطني. فقد دعا البيان لاول مرة إلى حل الميليشيات، واعتبر ذلك شرطا لدخول الأحزاب الانتخابات المقبلة، ويعد ذلك، إضافة إلى النقاط الأخرى التي وردت في البيان، محاولة لإعادة رسم الخارطة السياسية في البلاد بطريقة سليمة خالية من التشويش والتداخل والتوتر.

واذا كان كل ذلك ليس كافيا لاقناع المستفيدين من انعدام الأمن وغياب القانون في البصرة بالكف عن مساندة العصابات او الاستفادة منها في مشاريعهم المختلفة، فما هي مصلحة الإعلام ـ طبعا ليس كل الإعلام ـ في العمل على ترهيب الحكومة والرأي العام من محاولة التحرش بالوضع في البصرة.

والأسوأ من ذلك انقلاب بعض وسائل الإعلام في يوم وليلة من محرض على تيار معين باعتباره ضالعا في عمليات التطهير الطائفي وما الى ذلك، الى مدافع متحمس عنه.

حقيقة انه شيء مخيف أن ينزلق الإعلام إلى هذا المستوى من العمل على تزوير الوقائع وتشويش الأذهان عن قصد أو دون قصد، إن كان هناك متسع لسوء القصد.

* مستشار رئيس الوزراء العراقي لشؤون الإعلام

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»