عندما يصبح الامتناع عن الاختيار خيارا

TT

إقبال الناخبين هو الجانب المهم الوحيد في الانتخابات الإيرانية الأخيرة. ويعود السبب في ذلك إلى أن الخيار الوحيد الذي كان متاحا أمام الناخبين الذين سمحت لهم السلطات بالتصويت هو إما التوجه إلى صناديق الاقتراع أو الامتناع عن ذلك.

فعلت القيادة الإيرانية كل ما تستطيع للتأكيد على أهمية الإقبال على الانتخابات، إذ تحدث «المرشد الأعلى» علي خامنئي عن «صوت ثقة جديد» في النظام الخميني، فيما وصف الرئيس محمود أحمدي نجاد إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع كونه اختبارا لشعبية إدارته.

إلا أن ما حدث لم يكن يتوقعه أحمدي نجاد أو خامنئي. وإذا حاولنا أن نحكم على أساس المعلومات الرسمية التي نشرتها الحكومة، وهي معلومات متوفرة على موقع وزارة الداخلية الإيرانية، فإن غالبية الناخبين الذين يحق لهم التصويت قاطعوا الانتخابات، وكانت أقل نسبة إقبال على الانتخابات البرلمانية في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية، خصوصا في مناطق المدن.

الذين يحق لهم التصويت في الجولة الأولى يصل عددهم إلى حوالي 50 مليونا (الرقم على وجه التقريب كما أعلنته وزارة الداخلية هو 49431245). قفز هذا الرقم إلى حوالي 50 مليونا في الجولة الثانية ببلوغ بعض الناخبين السن القانونية خلال تلك الفترة.

العدد الكلي للذين أدلوا بأصواتهم لم يتعد 22832000، أي حوالي 46 في المائة من جملة الذين يحق لهم التصويت. يجب أن نلغي من هذا الرقم أصوات حوالي مليوني ناخب وصفت بأنها أصوات «ضائعة». هذه في الواقع بطاقات جرى تمزيقها أو استخدمت على نحو خاطئ أو انها تحمل أسماء بخلاف تلك التي أضافها المسؤولون. وطبقا لمصادر وزارة الداخلية الإيرانية، فإن آلاف من بطاقات الاقتراع كتبت عليها «شعارات غير لائقة»، وهذا يعني ان بعض الذين ذهبوا إلى مراكز الاقتراع ذهبوا أصلا لكي يسجلوا احتجاجهم. لقد أكدنا على الدوام أنه حتى الانتخابات السيئة هي أفضل من عدم إجراء انتخابات. وإذا ما أمكن إزالة حكومة سيئة عبر الانتخابات، فإنه سيكون من الخطأ رفض قضايا الانتخابات.

وفي الأسبوع الماضي شهدنا انتخابات غير مثالية تفتح الطريق لإنهاء حكم روبرت موغابي الكارثي في زيمبابوي.

وما من أحد يتوقع شيئا مماثلا في الجمهورية الإسلامية، على الأقل هذه المرة. ومع ذلك فإن الانتخابات الإيرانية تستحق الاهتمام أيضا باعتبارها تصويرا واقعيا للمزاج العام.

ومن الواضح أن المرء لا يمكن أن يفترض أنه لم يكن هناك تضليل وأنه لم تملأ صناديق اقتراع لصالح مرشحين يتمتعون بتفضيل رسمي أكبر. ولا تحظى الانتخابات في إيران بإشراف من جانب لجنة مستقلة، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، ولا يسمح للمرشحين بإرسال مراقبين إلى مراكز الاقتراع.

وحتى في هذه الحالة فإن آخر ممارسة توفر عددا من الدروس الهامة.

الأول هو الرفض الشعبي الضمني للنظام الخميني، خصوصا في المدن الإيرانية. ففي بعض المدن، وخصوصا العاصمة طهران، كان الذين صوتوا يشكلون أقل من 20 في المائة من المؤهلين.

وكانت حصيلة الاقتراع بالمتوسط في مدن إيران الرئيسية في محافظات إيران الثلاثين فوق نسبة 30 في المائة بقليل. وفي طهران انخفض ذلك الرقم إلى 19 في المائة فقط. وحتى في هذه الحالة فإن معظم أولئك الذين انتخبوا في طهران في الجولة الأولى حصلوا على ما يقل عن 25 في المائة من الأصوات. وقد كان غلام هداد عادل، الرئيس الحالي للجمعية التشريعية الإسلامية (البرلمان)، على رأس الاقتراع بحصوله على 840 ألف صوت، مما يقرب من 10 ملايين ناخب مؤهل. وذلك لا يزيد على نسبة 8.4 في المائة من ناخبي طهران.

وكان نموذج مماثل في مشهد وأصفهان وشيراز والأحواز ورشت، حيث تلقت المؤسسة الخمينية ضربة قوية. وفي عبادان لم يتوجه سوى عدد قليل من الناخبين إلى صناديق الاقتراع بحيث تعين على السلطات إلغاء الجولة الأولى وإصدار أمر بإعادة العملية. وإذا ما صدقنا الأرقام الرسمية فإن النظام الخميني يحتفظ بقاعدة شعبية في المناطق الريفية وبعض المدن الصغيرة، ولكنه سيخسر كثيرا في المدن الكبرى التي يزيد عدد سكانها على 100 ألف شخص.

والدرس الثاني للانتخابات هو العزلة المتزايدة للنظام في بعض مناطق إيران، حيث تسيطر الأقليات الدينية والعرقية. فلم تزد نسبة إقبال الناخبين في إقليم كردستان، حيث يعيش نصف أكراد إيران البالغ عددهم 4 ملايين شخص، على 25 في المائة.

وفي إقليمي سيستان وبلوشستان حيث يعيش 1.8 مليون بلوشي، معظمهم من السنة، لم تزد نسبة الإقبال على 20 في المائة.

كما شاهدت المناطق التي يسكنها التركمان والتاليش، ومعظمهم من السنة، ما يعتبر مقاطعة شاملة. ففي هاشتبار معقل التاليش في بحر قزوين، لم تزد نسبة المقترعين على 12 في المائة. والدرس الثالث هو أن المرشحين الأقل ارتباطا بالسلطات حققوا معدلات نجاح أكبر من هؤلاء المعروف التزامهم بالخمينية.

وسيحصل أنصار أحمدي نجاد الذين يمثلون أكثر الأجنحة راديكالية، على أغلبية المقاعد في المجلس الجديد. إلا أن معظمهم انتخب بأصوات أقل من المرشحين المستقلين الذين تمكنوا من الفوز. كما حقق المرشحون الذين يطلق عليهم «المعارضة الموالية» فوزا بمعدلات أفضل. وإذا لم تؤد النتائج التي حصلت عليها «المعارضة الموالية» والمستقلون، إلى حصولهم على أغلبية، فإن السبب يرجع إلى عدم السماح لهم بترشيح عدد كاف من المرشحين.

ويعني هذا أن أغلبية الإيرانيين لن يصوتوا إلى مرشح أقره النظام، أن الذين أدلوا بأصواتهم فإن عظمهم يفضل التصويت لصالح المرشحين الأقل ارتباطا بالنظام. وانطلاقا من نتائج المرحلة الأولى فإن 67 في المائة من هذه المقاعد في المجلس القادم ستذهب للقادمين الجدد. وهو ما يعتبر اقتراعا بعدم الثقة ضد النظام الحالي المحتضر «فرصة ثانية».

وتجدر الإشارة إلى أن استكمال دراسة سوسيولوجية تفصيلية للنتائج سيتطلب أسابيع. ولكن التقييم المبدئي يكشف عن عدد من الحقائق المهمة؛ من أهمها أن كراهية المرشحين المعتمدين منتشرة بين الإيرانيين من مناحي الحياة.

وقد بلغت المقاطعة للانتخابات حدا إلى درجة أن الناخبين الأفضل تعليما والطبقات المتوسطة الأفضل وضعا، قرروا البقاء في بيوتهم. ومن الواضح أن الخمينية كآيديولوجية فقدت بعضا من جاذبيتها بين الفقراء والأميين. والرسالة واضحة: لا يريد معظم الإيرانيين الخمينية، وإذا ما اجبروا على الاختيار فقط بين الخمينيين، فإنهم سيختارون المرشح الأقل التزاما. ولكن ماذا سيحدث إذا ما سمح لهم بالاختيار بين مرشح خميني وآخر غير خميني؟

هذه هو السؤال المهم للسياسة الإيرانية في السنوات القادمة.