من كل بستان زهرة أو شوكة

TT

أولا: أريد أن ابتعد هذه المرة عن مزيد من التعليق على القمة العربية العادية العشرين، التي انعقدت في دمشق، مع أنه ما زال هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال حولها وحول المشكلة اللبنانية التي أصبح من الواضح أنه لن يستطيع في النهاية حلها سوى اللبنانيين أنفسهم، عندما يدركون أن استمرار الأوضاع الحالية سيجعلهم كلهم مهزومين. وأريد اليوم أن أعلق على المفاوضات العاقر التي تجري بين أبومازن وأولمرت.

وبداية أود أن أقول ما سبق أن قلته مرات، وهو أني بعيد فكريا وآيديولوجيا عن «حماس»، وأني أختلف معهم في أمور كثيرة، واني إذا كنت منحازا لطرف، فإني أميل إلى الانحياز إلى أبومازن ـ وأنا استخدم في الإشارة إليه الاسم الذي اعتدنا أن نطلقه على المناضل الفلسطيني زميل أبو عمار في الكفاح، وأسمح لنفسي أن أقول إنه صديق وأني كنت دائما من المعجبين بوطنيته وحكمته وقدرته على التعامل مع أصعب المواقف. لكني في نفس الوقت، أؤمن بأن صديقك مَن صدَقك، وأن الساكت عن الحق ـ على الأقل كما يراه ـ شيطان أخرس. وقد كتبت في هذا الشأن كثيرا، ولعلي قد أغضبت بعض الأصدقاء الذين عاتبوني وعتاب الأحبة بقدر ما يؤلم ـ إذا كان نابعاً من سوء فهم ـ فإنه مقبول على أية حال. وإذا عدت إلى لقاءات أبومازن وأولمرت، فإني أتوقف عندما يُقال إنه تنفيذ للحصيلة الضحلة لمؤتمر أنابوليس الهزيل، التي تتلخص وفقا لما أكدته أخيرا مراسلة الـ «نيويورك تايمز» في إسرائيل، في عقد لقاءات دورية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بالتوازي مع تنفيذ التزامات الطرفين وفقا لخريطة الطريق. وقد رأينا كيف أن الإسرائيليين لم ينفذوا شيئا من التزاماتهم، فلم يرفعوا الحواجز التي تعوق تحرك الفلسطينيين، ولم يتوقفوا عن بناء المستعمرات وتوسيع الموجود منها، ولم يفرجوا عن المعتقلين بالآلاف من رجال وشباب ونساء. وبدلا من إبداء إسرائيل استعدادها للتوصل إلى تنفيذ حل الدولتين وفقا لما ادّعى الرئيس بوش أنه يريد الوصول إليه قبل نهاية مدته، فإن أولمرت يقول إنه يسعى للتوصل إلى اتفاق إطاري يكتفي بتحديد العناصر الأساسية لحل الدولتين وليس اتفاقا شاملا يمكن تنفيذه هذا العام.

وبالتالي، فإننا لا يمكن أن نتصور أن الأمور سوف تتحرك بشكل إيجابي، وذلك نتيجة لشعور الإسرائيليين بالمساندة الأميركية الكاملة وبضعف الموقف الفلسطيني، نتيجة للانقسام العدائي بين «فتح» و«حماس». ولن أمل من تكرار أن المصلحة الوطنية والقومية العليا تقتضي من كل مخلص أن يستجيب للجهود العربية لإعادة اللحمة إلى موقف فلسطيني موحد على ضوء ما سبق الاتفاق عليه في القاهرة وفي مكة.

ثانيا: استمعت بكثير من الدهشة إلى شهادتي قائد القوات الأميركية في العراق، والسفير الأميركي في بغداد، حول الأوضاع في العراق أمام الكونجرس، وهي دهشة شاركني فيها أعضاء الكونجرس أنفسهم، الذين استمعوا إلى ادّعاء بأن الأمور تتحسن والأوضاع تتجه إلى الاستقرار، بينما كل ما يتوارد من أنباء وتنشره وتذيعه وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، يتحدث عن أعمال العنف والانفجارات وسقوط الضحايا، وبعض هذه الانفجارات تطول المنطقة المسماة بالخضراء، التي كان يُقال إنها أكثر المناطق أمانا، كما أن خطط رئيس وزراء العراق ـ الذي تصور أنه جنرال ـ للقضاء على المسلحين من اتباع مقتدى الصدر، قد فشلت، لكنها كرست حقيقة أن الانقسامات لم تعد بين سنة وشيعة، بل إنها للأسف أصبحت بمثابة حروب أهلية ـ سياسية وعسكرية ـ داخل كل طائفة.. وذلك كله نتيجة الغزو والاحتلال الأميركي والسياسة الجاهلة أو المقصودة.

واتصالا بهذا، فإن استطلاع رأي قامت به الـ «نيويورك تايمز»، ومحطة تلفزيون CBS، قد تمخض عن أن %81 من الأميركيين، يرون أن الأمور قد اتجهت إلى الاتجاه الخطأ، بينما كانت نسبة مَن يرون هذا الرأي منذ عام %69، وفي بدايات 2003 كانت %35. ويرى %78 من الأميركيين أن أحوال البلاد أسوأ مما كانت منذ خمس سنوات، بينما عبر %4 فقط عن رأي مخالف.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد وضح خلال القمة الأخيرة لدول حلف الأطلنطي في بوخارست، أن بعض حلفاء الولايات المتحدة المهمين، أصبحوا يرفضون الانصياع للرغبات الأميركية في ما يتعلق مثلا بضم جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف.

ثالثا: سعدت بأن أتيحت لي فرصة اللقاء الذي نظمه المنتدى الاقتصادي الدولي بمصر لعدد من رجال السياسة والإعلام والأعمال والشخصيات العامة مع رئيس جمهورية التشيك فاسلاف كلاوس، الذي زار مصر زيارة رسمية. وقد ألقى الضيف محاضرة تحدث فيها عن تجربة بلاده على مدى العقدين الأخيرين في تحولها إلى «دولة أوروبية حديثة تقوم على ديمقراطية برلمانية واقتصاد سوق حر ومفتوح». وذكر أنه إذا كانت بعض جوانب التحول شديدة الخصوصية لبلاده، وأنه بالتالي لا يدّعي أنه يطرح نموذجاً لتتبعه دول أخرى، فإنه يرى أن بعض الجوانب تصلح بدرجة أو بأخرى كمثال وفي هذا الصدد فقد أوضح النقاط التالية:

ـ إن النجاح استلزم شروطا مسبقة ثلاثة يرتبط كل منها بالآخر، وكلها على نفس القدر من الأهمية:

* أن يكون هناك تصور واضح وشفاف للهدف.

* أن تكون هناك استراتيجية واضحة لتحقيق الهدف.

* إقناع غالبية الشعب بتأييد هذا التحرك.

ـ وقد أدركت الحكومة ما يلي:

* أن تغييرا جذريا من هذا النوع وبهذا الحجم، مهمة داخلية، لأن الديمقراطية واقتصاد السوق، لا يمكن استيرادهما، ولا يمكن الاتفاق عليهما في مؤتمرات دولية، أو تلقيهما كاستثمار أجنبي.

* إنها سلسلة سياسات متتالية وليست عملية تتم دفعة واحدة.

* أن التحرير من القيود وإلغاء الدعم والتخصيص، موضوعات حيوية يجب أن تتم بأسرع ما يمكن وتكون جذرية بقدر الإمكان. ويجب أن يتم اطلاع الشعب مقدما بآثار وتكاليف مثل هذا التحرك ـ خاصة على المدى القصير والمتوسط ـ وهي آثار كبيرة نسبيا.

* أن المجتمعات والاقتصادات التي تمر بمثل هذا التحول، تظل ـ خلال الفترة الانتقالية ـ هشة ومعرضة للخطر، لذلك فإن السياسات الاقتصادية والاجتماعية في فترة ما بعد التحول، يجب أن تتميز بالحرص.

* أن التجربة أثبتت أن التغيير في المجالين السياسي والاقتصادي يدعم كل منهما الآخر. وكان التحول السياسي سهلا نسبيا، إذ احتاج فقط إلى تحرير «السوق السياسية»، أما التحول الاقتصادي فكان أصعب واستغرق وقتا أطول، وكان مفتاحه تقليل تكاليفه عن طريق فتح الأسواق جذريا بالتزامن مع سياسات مالية ونقدية حذرة.

* وقد تم خصخصة الاقتصاد من دون وجود رأسمال ورأسماليين. وقد تم تخصيص الاقتصاد في مجموعة وليس فقط شركات محددة. وأضاف: لقد خصخصنا الشركات على حالها وليست كما كان البعض يريدون ـ بعد تعويمها ماليا، لأننا لو انتظرنا ذلك لما بدأ التحول.

* لقد كثر الحديث حول تأثير المساعدات الاقتصادية على التحول وعلى التنمية الاقتصادية. وقد أثبتت التجربة أن المساعدات الاقتصادية والمالية الخارجية لها أهمية هامشية فقط.

وهناك فجوة كبيرة بين الحديث عن المساعدات الخارجية، وحقيقة تلك المساعدات، لأن الواقع أن حجمها عادة ما يكون صغيرا جدا، وهو وضع ليس من المنتظر أن يتغير.

* كما أن شكل وهيكل المساعدات يستندان إلى مصالح المانحين وليس إلى احتياجات مَن يتلقونها.

* كما أن المساعدات ليست أبداً مجانية، بل إنها في حالات كثيرة غالية التكاليف على المدى الطويل، بما في ذلك المنح أو القروض الميسرة. وان مؤسسات الإقراض تتحرك وفقا لدوافع بيروقراطية للإقراض، لأنها لا تستطيع أن تكتفي بمراقبة العالم بطريقة سلبية فتثبت بذلك أنها غير ضرورية.

* أن الأساس هو التجارة، والمقصود التجارة الحرة، وليست التجارة العادلة، فالأخيرة معناها سياسة حمائية خفية، لأن تصور أن الساسة والبيروقراطيين أفضل وأكثر عدلا من السوق هو خرافة!.

هذا بعض ما ورد في خطاب رئيس جمهورية التشيك، وفيه نقاط تستحق الاختلاف معها، لكن فيه أيضا نقاطا تستحق تدبرها وتحليلها لعل فيها دروسا جديرة بأن تكون محل النظر في إطار تقييم وتقويم التحرك نحو اقتصاد السوق على أساس تجربة حذّر صاحبها بكل الوضوح أنها غير مطروحة كنموذج للآخرين.