النظام العربي بعد 5 سنوات من الزلزال العراقي

TT

عندما اندلعت الحرب الأمريكية ضد العراق وعدنا بأن نظاما إقليميا جديدا سيرى النور على أنقاض النظام الذي لم تتغير معطياته جوهريا خلال أربعة عقود كاملة.

ومع أن تحولات وأحداث سابقة لا تقل أهمية عن الموضوع العراقي لم تؤثر في تركيبة النظام الإقليمي كالحرب الأهلية اللبنانية من 1975 الى 1989 والثورة الإيرانية عام 1979 وحرب الخليج الأولى 1991، إلا ان الحدث هذه المرة اعتبر نقطة تحول وقطيعة بديهية لعدة أسباب أهمها اثنان هما:

ـ إن الحرب الأمريكية اتخذت منذ البداية طموحا شموليا يتجاوز الرهان العراقي. فالرئيس بوش وأركان إدارته صرحوا مرارا بان المواجهة لا تستهدف فقط قلب النظام البعثي في العراق بل إعادة بناء أوضاع المنطقة في سياق مشروع آيديولوجي راديكالي قوامه نشر الحرية والديمقراطية وجلب السلام للمنطقة. وحتى لو تعين الإقرار بأن الخطاب الاستراتيجي الأمريكي ينضح تقليديا بالرمزية المسيانية، إلا ان هذه النغمة الثورية الجديدة التي تعود لتأثير المحافظين الجدد في بنية القرار( اغلبهم من التروتسكيين السابقين) بدت جديدة وغير مألوفة في الخطاب السياسي الأمريكي ذي السمات البراغماتية الواقعية.

ـ إذا كان سقوط شاه إيران وقيام الثورة الخمينية قد شكل هزة عاتية في المجال العربي، فان الحدث تم على أطراف الدائرة العربية، وسمحت الحرب الطويلة بين إيران والعراق بامتصاص آثاره المتوقعة، فضلا عما آلت اليه من إنهاك اللاعب الجديد ومحاصرته. أما سقوط بغداد عام 2003 بحراب أمريكية فقد اعتبر بمثابة سقوط جدار برلين العربي، بالنظر لموقع البلد المحوري في الخارطة الإقليمية وطبيعة تجربته السياسية والآيديولوجية.

ومع ذلك لم تتغير تركيبة النظام الإقليمي وإنْ ترك الجرح العراقي النازف آثارا حادة في الجسم العربي. فشل المشروع الثوري الأمريكي لتصدير الحرية والديمقراطية للمنطقة وتحول لكابوس ثقيل بمشاهد سجن ابو غريب الفظيعة التي أفقدته كل «صدقية أخلاقية» وصور الفتن الطائفية الدامية التي قوضت بناء الدولة نفسه.

وبدل ان يتحول عراق ما بعد صدام الى نموذج للاحتذاء، ولد المأزق العراقي عوائق جمّة من دون الإصلاح السياسي المنشود، من تجلياتها البادية للعيان: إضعاف قوى الإصلاح والتغيير في البلاد العربية التي اضطرت الى تغليب منطق التحرر الوطني والقومي على مطلب الانفتاح السياسي الذي غدا ورقة اختراق مشبوهة للأمن القومي، مما اجتهدت في استغلاله الأنظمة الاستبدادية المتمنعة على الإصلاح والتحول الديمقراطي. لقد أثبتت التجربة الأمريكية في العراق عقم مسلك التدخل الخارجي قي إحداث النقلة المنشودة، كما بينت هشاشة البناءات التعددية السياسية في غياب التوافق الوطني الذي لا يمكن قيامه في ظل الاحتلال.

ومع تفاقم المأزقين السياسي والأمني في العراق رجعت الإستراتيجية الأمريكية إلى نهج التوازنات الطائفية التقليدية بحثا عن مخرج من المحنة المتفاقمة، غير واعية أنها مسؤولة عن إعادة إنتاج المعادلة الطائفية في العراق. وفي الوقت الذي أصبح الخيار الأمريكي يتأرجح بين الانسحاب السريع وقبول الهزيمة، او تهيئة الظروف الملائمة لهزيمة اقل إذلالا، بدا من الواضح ان النظام الإقليمي العربي استطاع على عكس التوقعات التكيف مع الجرح العراقي، كما تكيف مع أزمات محورية سابقة.

فمن أين لهذا النظام المتآكل هذه القدرة على الاستمرارية والتكيف؟

لنُشرْ بداية الى أننا لا نعني بالنظام الإقليمي العربي حالة مندمجة قائمة من قبيل التكتلات الإقليمية الدولية الناجحة كالاتحاد الأوروبي، بل ان السمة الغالبة على النظام العربي هي التفكك والانقسام، ومع ذلك لهذا النظام مقوماته الثابتة ومنطقه الداخلي وتوازناته القارة. فالتصدعات الخطيرة التي عرفها الوضع العربي (كالحرب الباردة الطويلة بين الكتلتين المحافظة والثورية) لم تحل دون تشكل مرجعية قومية مشتركة قائمة على الفكرة الوحدوية العروبية، ولم تمنع دون قيام موقف استراتيجي موحد من القضية المركزية الأولى: الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وقد بدا من المثير ان الإجماع العربي قام بسهولة حول عزل مصر عام 1979 بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، كما تشكل بسرعة وسهولة حول المصالحة معها ورجوعها للصف العربي، وفي الحالتين تم التغلب على التناقضات الداخلية في بناء الموقف القومي المشترك.

ولا يبدو ان الموضوع العراقي يثير اليوم اختلافا جوهريا بين الدول العربية التي تتفق في موقفها السلبي الصامت من معادلة الاحتلال والفتنة وتطلعها الضمني للدولة الموحدة المستقلة القرار عن إيران القادرة على احتواء التهديد الإرهابي الذي يستهدف المنطقة برمتها. صحيح ان الموضوع اللبناني هو بؤرة التوتر الرئيسية اليوم في العلاقات العربية ـ العربية بعد جريمة اغتيال الحريري، ،لا ان الإجماع قائم حول حالة السلام الهش وتجنيب البلاد الحرب الأهلية.. في انتظار حسم ملفات إقليمية شائكة معروفة ليس الطرف العربي وحده المعني بها والفاعل فيها.