عندما تجفّ البئر

TT

أغرب وأتفه جواب سمعته بالأمس القريب من موظف مسؤول يفترض فيه أن يكون على قدر من الصدق والرزانة والعقل.

والحكاية وما فيها، أن الكهرباء انقطعت عن منزلي والشارع الذي هو فيه، فكان من الطبيعي أن أتصل بالشركة لأعرف السبب، ومتى سوف يعود التيار، وهذا هو بالفعل ما حصل، وما أن سألت ذلك الموظف حتى أتاني سريعاً ردّه الذي لا يخطر على البال عندما قال لي: أنصحك (يا باشا) افتح الثلاجة وكل (آيس كريم) أحسن لك.

الله (!!!!)، الواقع أنني صعقت من كلامه واحترت بماذا أرد عليه.. وصمت قليلاً (متعوّذاً من إبليس)، وخمّنت أنني قد غلطت بالرقم فأغلقت الخط وأنا أتصّنع الضحك وأقول بيني وبين نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وعاودت الاتصال بعد أن تأكدت تماماً من صحة الرقم، وإذا بصوته هو يأتيني هذه المرّة غاضباً وهو يسألني وينهرني وكأنه يؤنبني على تكرار الاتصال وقال: أنا إيش قلت لك؟! أنت ما تفهم؟!

عندها بدأ الدم يغلي في عروقي فأجبته: لقد قلت لي كلاماً بارداً (كالآيس كريم) الذي أتمنى أن ألطّخ به وجهك، ولكن قل لي بصراحة: هل أنت شارب (شي ولا شي) يعني؟!

فرد عليّ وهو يرتجف أرجوك لا تقل أدبك، أنا أصحى منك ومن كل اللي (..............).

المشكلة أنني لا أستطيع أن أنفذ بجسمي عبر سلك التليفون وأصل إلى مكانه حيث يجلس.

انلجم لساني، ولم أستطع أن أجمع جملة واحدة مفيدة، والطامة الكبرى التي زادت الطين بلة، أنه من شدة انفعالي زفرت زفرة كبيرة، انطفأت من جرائها الشمعة الوحيدة في الغرفة، فساد الظلام الدامس المكان، ورحت أتخبط باحثاً دون جدوى عن الولاعة، وفيما كنت (أون) من شدّة الألم بسبب ارتطام قدمي بإحدى الطاولات، كان صوته يأتيني ملعلعاً عبر سمّاعة التليفون وهو يقول: رد، انطق، إيش فيك ساكت؟!، تكلم يا جبان.

وبالكاد أخذت أتحسس طريقي وخرجت من منزلي عدّة ساعات أسير على الأرصفة، إلى أن شاهدت أنوار الشارع تعود من جديد. أعترف أنني خضت معركة خاسرة وغير متكافئة، والحمد لله على الهزيمة المشرّفة.

* * *

في أحد الفنادق (الكلاسيكية) الكبرى، أخذت المصعد إلى (الروف) في الطابق الأعلى ومعي عامل المصعد الذي ظل طوال الوقت يغني ويضحك لنفسه، وعندما توقفنا قلت له: لا شك أنك سعيد هذا الصباح، أجابني وقد تحولت قسمات وجهه إلى الحزن وقال: أبداً يا سيدي، ولكنني أحاول أن أكون سعيداً.

* * *

سمعت جواب أم لثلاثة أولاد مشاغبين، عندما سألتها إحداهن: لو انك بدأت حياتك من جديد، فهل تنجبين أولاداً؟!، فأجابت: نعم، ولكن ليس الأولاد أنفسهم.

ولي الحق الآن أن أسأل كل أم وكل أب (نفس السؤال).. فمن هو الذي لديه الشجاعة كي يجيب؟!

* * *

قال لي: لا ندرك قيمة الماء إلا عندما تجفّ البئر، أجبته: صدقت وكذلك (النفط).

[email protected]