ليل دان

TT

حينما كنا أطفالا كان لنا صديق يمتلك جهاز عرض الاسطوانات، ولديه عدد من المقطوعات لشوبان وموزارت وبيتهوفن، يتمايل عند سماعها طربا، وكنت حتى ذلك الوقت مرهونا في حنجرة عواد عازف «السمسمية» في حينا، وقد أتجاوزه قليلا إلى صوتي حسن لبني، وعبد الرحمن مؤذن، اللذين يحضران من مكة المكرمة إلى جدة لإحياء الأفراح والليالي الملاح بالمواويل، وفي مرحلة لاحقة بدأنا نستمع إلى بعض الاسطوانات المهربة، التي تحمل بعض الأغاني مثل «غني لي شويه شويه» لأم كلثوم، و«يا أم العباية» لسهام رفقي، و«مركب الهند» لجمعة خان، و«يا شفر تنده» لمحمود حلواني.. ولذلك لم أستطع أن أشارك صديقي ذلك متعته بسماع الموسيقى الغربية، ودائما ما كنت أتشكك بأن صديقي يتمايل استعراضا وليس طربا..

وفي رحلة خارجية أخيرة دعيت من قبل أحد الأصدقاء إلى حفل لموسيقى «الجاز»، وكان علي أن أنصت على مدى ثلاث ساعات لهذه الموسيقى، في قاعة تضم مئات الناس، ورغم ذلك يسودها الصمت، فلا صوت فيها غير صوت الموسيقى، وقد بذلت جهدي مستعينا بدراستي لعلم النفس كي انتشي طربا كالآخرين، من دون جدوى، فانسحبت إلى خارج القاعة، ومضيت أطرب لصخب الشوارع وأبواق العربات..

لا تلوموني لكوني لم أطرب لموسيقى «الجاز»، فأنا ابن زمن كانت فيه الموسيقى من نواقض الوقار، حالها حال الرسم، الذي ما زلت أغبط معلمه العتيق، الذي كان يطلب منا رسم مزهرية وورود، قبل أن يغط في نوم عميق لا يستفيق منه إلا في نهاية الحصة لجمع الكراريس، وكان ينسى أو يتناسى أننا أبناء مدينة ليس بها سوى ثلاث شجرات «نيم»، قاومت معنا الظمأ والقيظ والجفاف، ومن فرحنا بها كنا نغني لها صغارا:

«يا شجرة ميلي كيف أميل؟

ميلي على جنبك اليمين»

فكانت تميل دلالا ونشوة لتتراقص الظلال وتصفق الأغصان..

ومن بوابة جهلي بفنون الرسم الحديثة أن تلقيت لوحة من فنان تشكيلي أفردت لها على مدى سنوات صدر مكتبي، وقد انشغل بقراءتها بعض أصدقائي المثقفين، وذهبوا في تفسيرها مذاهب عدة، ولكن لم يحل «شيفرتها» سوى عم جابر ـ عامل الشاي ـ الذي أسر لي بضرورة تغيير هذه اللوحة لأنها تخدش الحياء، فاعتبرت ما قاله ضربا من الخداع البصري.. وحينما التقيت بالفنان بعد شهور أخبرته من باب الفكاهة بأحدث القراءات للوحته، فصمت قليلا وقال: «لقد صدق عامل الشاي والقهوة وأخطأ أصحابك المثقفون»، فعدت إلى مكتبي أحمل اللوحة بعيدا عن العيون.. ومن يومها أصبحت أنظر إلى عم جابر كواحد من أهم قراء اللوحات التشكيلية الحديثة، ولا أجرؤ على تعليق لوحة في بيتي أو مكتبي إلا بعد إجازتها منه، فبعض الإبداع الفني الحديث لا يستند إلى قواعد متفق عليها.. صارت هيصة كما يقول أستاذنا زكي نجيب محمود!

[email protected]