بمناسبة سقوط بغداد.. هؤلاء (أعداء من نوع آخر) لأمريكا

TT

هل اكتشفت الدراسات النفسية مرضا يسمى (مرض البلادة الذهنية والشعورية تجاه الأحداث الجسام)؟.. بصرف النظر عن الاكتشاف، وعن تسميته، فإن التاريخ والواقع يوكدان وجوده على مستوى الأفراد والأمم.. فهناك أحداث جسام مزلزلة تقع وتمر ذكرياتها المرة، وكأنها إلف مألوف، أو شيء جد عادي: كمضغ الطعام، أو التمطي بعد النوم!

منذ قليل مرت ذكرى سقوط بغداد واحتلالها. مرت وكأن سقوط عاصمة عربية اسلامية ـ لا سيما عاصمة في مكانة بغداد ـ مثل سقوط بيت رميم هار آيل للسقوط: خال من السكان والجيران والعمران: ليس له الا أن يسقط وينقض جداره بلا أسف عليه، مع ان سقوط بغداد الأول على يد الغزو التتاري لا يزال ماثلا في الذاكرة العامة!

ان فقدان الاحساس والوعي بالأحداث الجسام العظام المزلزلة، يساويها في الشر والخطر والضرر، بل ان فقدان الاحساس والوعي يفوق الأحداث الفاجعة في الشرور والأضرار، ذلك أن فقدان الوعي بما وقع من أهوال ومثلاث: توطئة أو ايذان بتكرارها حيث ان الاعتبار بها ـ فكريا وعمليا ـ هو الذي يوصد الأبواب الاجتماعية والفكرية والسياسية في وجه مثلها.. لا ريب ان الانسان أعلى مرتبة وقيمة من الفئران. لكنه يمكن أن يتنزل من عرش مكانته السامية الى جحور الفئران.. كيف؟.. ان الفأر (المعاصر)، يسلك سلوك جد جد جد جده قبل ألوف السنين في عدم الاعتبار بما جرى لجده الأعلى. فقد كان جده الأعلى يصطاد من خلال طعم ما في مصيدة معينة (وفق حرِف كل عصر أو تقنيات وسائل صيده).. يدخل الفأر الجد في المصيدة ليتناول الطعم فإذا هو حبيس المصيدة.. والفأر الحفيد يسلك ذات السلوك لأنه لم يعتبر بمصائر اجداده في الهلاك.. والفأر لا يلام، لأنه لا يملك القدرة على الاعتبار، ولا الارادة والوعي المنقذين من الهلكة، ولكن الانسان يلام لأنه يملك ذلك. فإذا عطل الانسان مواهبه وقدراته: نزل دون منزلة الفئران: «لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام. بل هم أضل أولئك هم الغافلون».. ومن الغفلة: تعطيل حواس المعرفة والإدراك تجاه الأحداث الجسام المزلزلة.

وبمناسبة ذكرى سقوط بغداد، نتأمل في مقولتين ـ مثلا ـ:

ـ مقولة مواطن عراقي فرح بغزو بلاده في نشوة الفرحة الكذوب.. ثم قال «في هذه الأيام، أي بعد مرور سنوات خمس على سقوط بغداد كنت مسرورا حين ربط الأمريكان تمثال صدام حسين بسلك جرته دبابة أمريكية فسقط التمثال من ثم وكنت من ضرب التمثال بالحذاء، ولكني اليوم نادم على ما حصل، وعلى ما قمت به أنا شخصيا، وسبب ندمي هو أننا نعيش اليوم في وضع هو أسوأ مما كنا فيه من كل النواحي».. وقد تمثل هذه المقولة الملتاعة المرتاعة رأيا عراقيا عاما: باستثناء الرابحين من الاحتلال: ماليا ومذهبيا وسياسيا: من أهل البلاد، ومن المحتلين وتوابعهم (كشف مركز ريسبونسيف بوليتكس/الأمريكي للابحاث ان نحواً من 151 عضوا في الكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي قد حققوا أرباحا هائلة من غزو العراق عبر استثمارات في شركات تتعامل مع البنتاجون).. ومقولة المواطن العراقي الذي انقلب فرحه الشديد بالغزو الى ندم يقطع فؤاده، ويتعس روحه وحياته.. هذه المقولة ليست مجرد زفرة حالم في حالي: الفرح والغم، بل هي اعلان صريح عن واقع ملموس ومشاهد ومشموم ومعروف بالحواس جميعا.. فالحقيقة الكبرى المستخلصة من غزو العراق واحتلاله وسقوط عاصمته هي: (خراب العراق كله) وليس (خراب البصرة) وحدها، كما يقول المثل الشائع، وهو خراب عبر عن نفسه في صور شتى: صور تحطيم البنية الأساسية للمرافق جميعا.. وصورة قتل أكثر من مليون عراقي.. وصورة تشريد خمسة ملايين عراقي.. وصورة وجود نحو مليون مشوه عراقي.. وصورة حل الجيش العراقي وتحطيمه، وهو قرار مكن الماليشيات من البروز والاستفحال والطغيان، وهدد وحدة البلاد، إذ الجيش ـ في أي دولة ـ من أقوى ضمانات الوحدة الوطنية.. وهذه صور نماذج ـ فحسب ـ وإلا فإن احصاء صور الخراب ومجالاته وآثاره يحتاج الى مجلدات.

ـ المقولة الثانية التي قيلت في ذكرى سقوط بغداد هي قول الرئيس الامريكي جورج بوش ـ وهو يخاطب الكونجرس ـ: «أعطونا مزيدا من المال لدعم قواتنا في العراق: تفاديا للهزيمة».. لقد تبدل الحال: من حال (الزهو بالنصر والتبشير به الى حال تفادي الهزيمة).. والصرخة الكظيم أو المعلنة عن (الهزيمة) جاءت متأخرة جدا، أي من حيث الإعلان.. أما الواقع فقد سجل هذه الهزيمة تسجيلا لا مجال فيه للنكران، ولا للمغالطة.. في كتاب جديد بعنوان (حرب الثلاثة ترليونات) قال المؤلفان ـ لينا بيلميز وجوزيف ستيجليتزـ: «ان تكاليف الحرب على العراق ادت إلى إضعاف الاقتصاد الأمريكي».. وفي الأيام القليلة الماضية صدر تقرير سياسي استراتيجي مهم عن مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي.. ومما جاء في هذا التقرير مما نحن بشأنه: «الحقيقة الأولى: ان العراق بعد الغزو أصبح دولة فاشلة منهارة.. والحقيقة الثانية هي ان الدولة عندما تنهار فإنه من الصعوبة بمكان وقف ذلك. فتحول دولة فاشلة إلى دولة فاعلة تستطيع ان تدير أمورها هو مشروع لم يستطع ان يحققه أي تدخل خارجي حتى الآن.. والحقيقة الثالثة هي: انه ليس لدى الولايات المتحدة ولا لدى العراقيين أنفسهم خطة لإعادة إنقاذ الدولة من الانهيار».

هذه كلها قرائن وأدلة فشل أمريكي مؤكد في العراق.. ولكن لماذا الفشل:

1 ـ إما ان يكون الفشل مقصوداً لذاته، أي ان الإدارة الامريكية قد اتخذت قرار غزو العراق بنية الفشل المخزي «!!!!».. وهذا نوع من الجنون، قد يتبرأ منه المجانين أنفسهم.

2 ـ وإما ان يكون الفشل (نتيجة حتمية) للحسابات التي اكتنفها الخطأ والعمى من ألفها إلى يائها؟.. وهنا تنشأ أسئلة جارحة صاعقة ـ وعالية العقلانية في الوقت نفسه ـ: أين دولة المؤسسات؟.. أين المهارات الفكرية والسياسية التي تزخر بها الولايات المتحدة؟.. أين رصيد الخبرة الدبلوماسية والاستراتيجية؟.. أين الحرص على السمعة والصورة.. أين الوطنية المفعمة بالإخلاص والتي تعكف ـ دوما ـ على تفادي (الاخطاء القاتلة)؟

3 ـ وإما أن تكون الولايات المتحدة قد ضحت بنفسها من أجل دولة أخرى (أجنبية) وهي إسرائيل وأجنحتها الصهيونية المتعددة.. هذا احتمال خطر وصاعق الوقع على الضمير الأمريكي، والكرامة الامريكية.. وعلى المصلحة الأمريكية أيضاً، بيد أنه ـ مع الأسف ـ هو الاحتمال الأكثر رجحانا.. مثلا: ليس للولايات المتحدة أي مصلحة وطنية حقيقية في (تدمير العراق)، ولكن من الموكد ان لاسرائيل مصلحة حقيقية في هذا الدمار.

ولقد لمح عدد كبير من الصفوة الامريكية ـ السياسية والعسكرية ـ بأن غلاة الصهيونية ـ داخل الادارة الامريكية وخارجها ـ هم الذين دفعوا الولايات المتحدة الى غزو العراق واحتلاله: وفق حسابات صهيونية لا أمريكية.. ومن هذه الصفوة زبغنيو يريجنسكي الذي قال: إن هذا الغزو ثمرة لخطة قدمها صهيونيون الى بنيامين نتنياهو عندما كان رئيسا لوزراء اسرائيل!

في ضوء هذه الحقائق والوقائع يتوجب أن ينتهي المقال الى النهايات التالية وهي: ان هناك (اعداء من نوع آخر للولايات المتحدة الامريكية).. نعم. في الادبيات المعلنة هناك اعداء معروفون لهذا البلد.. منهم ـ مثلا ـ تنظيم القاعدة.

والمعروف لا يعرف.

انما الذي يحتاج الى تعريف وكشف وتعرية هم أولئك الاعداء (المستترون): جوازا أو وجوبا.. ومن هؤلاء الأعداء:

أ ـ الذين لم ينصحوا الولايات المتحدة بالقدر الكافي الواضح، فأي بلد صغر أو كبر ـ هو محتاج الى (النصح الرصين الشجاع الأمين) حاجته الى ضرورات الحياة من طعام وشراب واكسجين.. ومن هنا، فإن من يبخل بهذا النصح هو (عدو مستتر).. نعم.. وليس ينبغي تلطيف الوصف، لأن التلطيف هو ذاته نوع من الغش: لا النصح.

ب ـ الذين جاملوا الادارة الامريكية في الغزو وداهنوها عليه، فلئن كان البخل بالنصح (عداوة صامتة)، فان المداهنة بالكلمة والتشجيع (عداوة تشجيع على ارتكاب الاخطاء القاتلة).

ج ـ الذين رفعوها فوق قدرها وكأنها (معصومة من الخطأ). فهؤلاء ايضا اعداء لها. فمن يقل لبشر عادي انت معصوم من الخطأ، انما هو عدو له بالمبالغة والكذب والعبادة الباطلة والتضليل المهلك.

د ـ الذين استدرجوها لخدمة اغراضهم الحزبية والسياسية في العراق. فهؤلاء ـ كذلك ـ اعداء لامريكا من جهة التضحية بمصالحها وسمعتها في سبيل اغراضهم الحزبية والسياسية.

هـ ـ الذين سخروا امكانات امريكا ووزنها في خدمة اجندتهم العقدية والايدلوجية وهم المحافظون الجدد، ومن ورائهم غلاة الصهيونية، فهؤلاء، جميعا اعداء للولايات المتحدة.