خلافات الشعلة الأوليمبية توقد الحنين لزعامة السيدة الحديدية

TT

رحلة الشعلة الاوليمبية وما صاحبها من احتجاجات على انتهاك الصين لحقوق الانسان وتنكيلها بشعب التيبت واكبها استطلاع للرأي لاختيار اعظم رؤساء وزراء بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. اختار البريطانيون البارونة مارغريت ثاتشر بأصوات تفوق ما حصل عليه السير ونستون تشيرشيل.

ما يرفع الزعيم شعبيا او يخسف به الارض، هو «الاقتصاد يا غبي» عند الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون It is Economy stupid او «الاحداث يا ولدي العزيز» عند الزعيم البريطاني الراحل سير هارولد ماكميلان .events dear boy

الملاحظ توقيت الاستطلاع اثناء ازمة سيولة نقدية يحاول رئيس الوزراء العمالي غوردون براون ووزير ماليته اليستار دارلينغ انكارها بينما يقضمان اظافرهما في قلق.

اعتبرت الاغلبية انهاء ثاتشر لنفوذ الاتحادات العمالية اكبر انجازاتها من قائمة طويلة كدخول اول امراة في داوننغ ستريت، وتحرير جزر الفولكلاند، ودورها الرئيسي في انتصار العالم الحر في الحرب الباردة.

عندما فازت ثاتشر بانتخابات 1979 كانت بريطانيا «رجل اوروبا المريض» بموقع اقتصادي دون مستوى بقية الدول الصناعية السبع الكبرى. سيطرة الدولة والقطاع العام وقتها على الصناعات الكبرى ودعم دافعي الضرائب لخسائرها وتغاضي حكومة جيمس كالاهان العمالية عن ابتزاز زعماء النقابات العمالية الشيوعيين للامة كانت اسباب تدني اقتصاد البلاد.

الاحداث، بمقولة اللورد ماكميلان، اظهرت الهوة بين مواقف السيدة الحديدية، والمواقف الهزلية لحكومة العمال. رئيس الوزراء براون رأى في الشعلة الاوليمبية فرصة التقاط صورته مبتسما للهبها على باب 10 داوننج ستريت؛ ثاتشر كانت تسمح فقط بصورها لترويج صناعات بريطانية او مع الجنود لتأكيد وقوف الامة وراءهم.

ثاتشر قاطعت اوليمباد موسكو ردا على غزو افغانستان؛ وبراون، حسب المثل الشعبي «رقص على السلم، لا هو فوق او تحت». اعلن عدم مقاطعته الاوليمبياد، لكنه لن يحضر مهرجان الافتتاح!

هل يختار الاقتصاد ويتعامى عن سجل الصين المخزي في حقوق الانسان من اجل تجارة تضمن وظائف بريطانية؟

ام يمسك بالأحداث ويضغط على بكين لرفع سقف الحرية؟

مذيع في البي بي سي استضاف تلميذة لم تبلغ بعد 16 عاما عشية حملها شعلة الاوليمبياد في في لندن. وكأي طفلة في سنها عاشت شهورا تتدرب على العدو وتحلم باليوم الذي ينقش على حجر ذاكرتها للابد. المذيع (بتعليمات ادارة التحرير اليسارية للبي بي سي) افسد حلم تلميذة دون السن القانونية للزواج او التصويت بالسؤال «ألم تفكري في رفض حمل شعلة الاولمبياد احتجاجا على سياسة الصين في التبت؟».

لم يتوجه مذيعو البي بي سي اليساريون بالسؤال لمديري بنوك كبرى عن تعاملهم مع الصين، او لمديري شركات الطيران، والصناعات الكبرى التي تتعامل مع الصين.

لكن اليسار «تشطر» بارباك تلميذة تحلم بأهم يوم في عمرها.

نموذج لنوع التناقضات التي تفسر ابتسام رئيس الوزراء براون للهب الاوليمبي لإرضاء الصين؛ بينما يقود زعماء عماليون تظاهرات تخالف تقاليد الاحتجاج البريطانية المهذبة إرضاء لليسار.

او قارن رد فعل حكومة العمال لاختطاف الحرس الثوري الايراني طاقم البحرية الملكية اثناء تنفيذهم مهمة للامم المتحدة في المياه الدولية، برد فعل ثاتشر لغزو صدام حسين للكويت عام 1990. جمدت فورا ارصدة العراق في البنوك، وايقظت الرئيس جورج بوش الاب من نومه ليجمدها في امريكا؛ وعندما بدأ يناقش الخيارات قاطعته بحجة: «جورج... لا وقت للتهاون.. انذار بالانسحاب من الكويت او الحرب».

جمعت ديبلوماسيتها 28 أمة من الشرق والغرب، من مختلف الاديان والاعراق لتحالف عسكري تقوده امريكا، حيث اقنعتهم بنظريتها وهي ان القوة العسكرية الامريكية هي الضمان الاخير لامن العالم الحر وانظمته الديموقراطية فاطمأن الحلفاء لتوجيه العقل البريطاني للقوة الامريكية.

كان لثاتشر دهاء وتصميم تشيرشيل في التعامل مع الازمات الدولية للخروج بنتائج عملية بلا اجراءات رمزية تنعكس في مانشيتات تزيد شعبية الزعيم دون نتائج على المدى الطويل.

اذكر تغطيتنا لقمة كومنولث قبل عشرين عاما، ومطلب الاغلبية فرض العقوبات على جنوب افريقيا؛ ووقوف الليدي ثاتشر صوتا وحيدا من 49 ترفض العقوبات «لغياب تأثيرها على الحكومة بينما تضر بالفقراء» (اثبتت العقوبات على العراق صحة النظرية).

سألناها، في المؤتمر الصحفي الختامي، ما شعورها وحيدة معزولة في القمة؟ فردت بثقة يجمد برودها البحيرات الاستوائية «اشعر بالأسى لحال الـ48 الباقين المخطئين».

وقتها كانت تتفاوض بدهاء تشرشلي مع الجناح الليبرالي بزعامة بيك بوتا في جنوب افريقيا لمقايضة انهاء المقاطعة بالافراج عن نلسون مانيلا وايجاد مخرج لبريتوريا من مأزقها التاريخي بانهاء النظام العنصري وانتهاج ديموقراطية على نمط وستمنستر؛ وكانت ثاتشر ومانديلا وشعب جنوب افريقيا من ضحك اخيرا. الاقتصاد واحداث كاوليمبياد بكين تشير لحاجة العالم اليوم لزعماء مثل ثاتشر، لإعادة التأكيد على اهم اسس الديموقراطية والليبرالية الاقتصادية، وهي حرية الفرد الكاملة في الاختيار، ومنع الدولة من التدخل في شؤونه، وهو ما يعجز اليسار، سواء في بريطانيا واوروبا، او مصر والعالم العربي عن استيعابه لدرجة اوقفت اليساريين في الخندق نفسه مع اشد التيارات فاشية وشمولية لمجرد العداء لامريكا (كمناداة اليسار بالتفاوض مع القاعدة!) والعولمة واقتصاديات السوق الحر.

اليسار هنا، بعقلية الهستيريا الجماعية، قرر ان الطيبين هم من يتظاهرون ضد حملة شعلة اوليمبياد الصين في شوارع لندن، دون دراسة تأثيرها على سياسة الصين، او من يتظاهرون في شوارع الشرق الاوسط ضد امريكا والعولمة والتجارة الحرة، ومن لا يتظاهرون هم عملاء للاستعمار بلا مبادئ؛ وبالتالي فهذا اليسار الشمولي يرفض حق الفرد ـ حتى ولو كان فتاة بريئة ـ في الاختيار.

الحاجة الماسة لزعيم ثاتشري جديد لا تقتصر على بريطانيا، فبلدان الشرق الاوسط، واغلبها اما يرقد في مستنقع الشمولية، او صمت اصلاحيوه الليبراليون بارهاب التيارات الشمولية، دينية او قومجية، هي في اشد الحاجة لزعماء يتمتعون ببصيرة ووضوح رؤية وعزم وتصميم الليدي ثاتشر لزرع اهم بذور الديموقراطية، وهي حرية الفرد وحقه المقدس في الاختيار دون تهديد او اجبار من الجماعة والعشيرة والقبيلة والمجتمع والمؤسسة الدينية والدولة.

وحتى يفهم اليسار في الغرب، والتيارات الاصولية والقومجية والشمولية في الشرق الأوسط ان اساس بنيان الديموقراطية والتقدم والرخاء هو حرية الفرد وحقه في الاختيار، ستظل الديموقراطية، شرقا وغربا، طفلا يحبو ولن تستقيم قامته ابدا.