عقيدة ساركوزي

TT

يحتكر الرؤساء الاميركيّون إطلاق العقائد. فمن عقيدة جيمس مونرو (1823) حتى عقيدة الرئيس جورج بوش الحالي، كان العالم واميركا يتفاعلان، سلبا أو إيجابا، لينتجا عالما وواقعا جديدين، ودائما ملائمين للمصالح الاميركيّة. أدّت عقيدة مونرو إلى إبعاد اوروبا عن القارة الاميركيّة. كما أدّت عقيدة بوش إلى إعلان الحرب على الارهاب باعتماد الحرب الاستباقيّة.

اقتصرت عقيدة مونرو جغرافيّا على القارة الاميركيّة ومحيطها. لكن عقيدة بوش شملت كلّ زاوية من زوايا الكرة الارضيّة، كما أثّرت في كلّ بيت، خاصة في المنطقة العربيّة.

وتُطلق العقيدة بشكل عام في ظلّ ظروف معيّنة، وعندما لا تعود قواعد العقيدة القديمة صالحة للتعامل مع الواقع المستجدّ. بكلام آخر، تحدّد العقيدة مسارا جديدا، او تعديلا لما كان.

إذا هي الخطوط العريضة للاستراتيجيّة الكبرى لقوةّ كبرى او عظمى. وعليها، وعلى مضمونها تُصاغ الاستراتيجيّات، العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة. لذلك، تُمأسس هذه الافكار، وتُرصد لها الموازنات الضخمة، وهي بحدّ ذاتها تعود لتصنع خطابها الخاص بها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن اليوم استعمال خطاب الحرب الباردة، بعد غياب القطب الاساسيّ فيها.

في مكان آخر، قد تُطلق دول ما يسمَّى الكتاب الابيض بدل إطلاق العقائد عبر خطاب او ما شابه. فالكتاب الابيض هو تلك الوسيلة الدبلوماسيّة غير المباشرة لاعلان استراتيجية دولة ما علانية. وقد ينفع الكتاب الابيض تجاه الاعداء اكثر منه تجاه الحلفاء. فهو يوجه رسالة دبلوماسيّة دون الاضطرار للجلوس إلى طاولة واحدة مع الخصوم والاعداء.

إذا، قد تُطلق العقيدة دفعة واحدة، كما فعل بوش في خطاب له بعد كارثة 11 ايلول. او قد تُعلن عبر نشر الكتاب الابيض. او قد تبقى سريّة، فقط ضمن دائرة صغرى، وعلى صعيد مُتّخذي القرار في قوّة عظمى ما، لكن تُنفّذ عبر مراحل معيّنة. وعندها وبعد فترة من التنفيذ، يحاول الباحثون – الدول المنافسة ـ رصد المؤشرات على ارض الواقع، ربطها بعضها ببعض، ومن ثمّ محاولة إعادة تركيب صورة الاستراتيجيّة الكبرى – السريّة كما قلنا ـ لهذه العقيدة السريّة. كانت عقدة الرئيس ديغول في وقوع فرنسا تحت جناح النسر الاميركي. فأميركا هي التي حرّرت اوروبا. وحسب الكثير من المراجع، لم يكن الرئيس الاميركي ايزنهاور يحبّ، او حتى يحترم الرئيس ديغول. كان تشرشل هو صلة الوصل، وحلاّل المشاكل إذا صحّ التعبير.

لم يُصدّق ديغول يوما، ان اميركا ستعرّض مدنها للدمار الشامل في حرب نوويّة مع السوفيات، فقط لتدافع عن اوروبا. من اجل ذلك، انسحب من اللجنة العسكريّة لحلف شمال الأطلسي، كما بنى القدرة الردعيّة الفرنسيّة النوويّة الخاصة به.

في العام 1967، مانع ديغول إنضمام بريطانيا ـ حليفة اميركا ـ إلى الاتحاد الاوروبي.

قال الرئيس فرنسوا ميتران عن مارغريت ثاتشر: «إنها امرأة مستحيلة».

وأخيرا وليس آخرا، قال الرئيس السابق جاك شيراك عن بريطانيا: «لا يمكن ان نثق بشعب طعامه سيئ الى هذه الدرجة».

تبدّل هذا الامر جذريّا مع الرئيس نيكولا ساركوزي، فهو يرى لندن كسابع أكبر مدينة فرنسيّة نظرا لكبر الجالية الفرنسّية هناك. كذلك عقد اجتماعا مع رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون في ملعب الامارات، حيث مدرّب فريق الارسنال هو الفرنسي أرسين فينغر.

وأخيرا وليس آخرا، اتّسم خطابه في مجلس العموم البريطاني بالآتي: حرارة الخطاب، لهجة الخطاب، كما اقتراح التعاون الاخويّ في القرن الـ 21 بين اعداء الامس. كذلك الامر، شكر تشرشل لما قدّمه لفرنسا خلال الحرب الثانية، كما عرض التعاون في المجالات الآتية: المناخ، الطاقة، الهجرة، الامن وأفغانستان.

بكلام آخر، ونظرة مختلفة، يريد ساركوزي أوْرَبة الدور البريطاني اكثر فأكثر، وعولمة الدور الفرنسي اكثر فأكثر.

لكن الشيء الجديد والفريد والذي أتى به، هو دور المرأة في الدبلوماسيّة. فمعه، تقدّمت السيدة الأولى لتلفت الانظار، وذلك عبر مستوى الجمال واللياقة والكاريزما. وإذا كانت قضايا المرأة مع الرؤساء الفرنسييّن السابقين سريّة، فلقد كسر ساركوزي القاعدة لتصبح هذه العلاقات علنيّة.

في علم الجيوبوليتيك، لا يهمّ أبدا من أنت، لا بل أين أنت، وماذا تملك من الثروات او من القدرة على التأثير والتغيير.

هكذا تبدو مقاربة فرنسا مع ساركوزي لقضايا العالم. فهو حتما قد انطلق من الشعار الذي يقول: «الغائب دائما خاسر». فإذا ارادت فرنسا ان يكون لها دور في النظام العالميّ الآتي، عليها ان تكون حاضرة. لكن الحضور يستلزم موافقة الاخّ الاكبر المُستجدّ، لكن مع توفّر الامكانيّات للتأثير في حجز الدور المُتخيّل.

كذلك، وعند رسم الاستراتيجيّة الكبرى يجب وعي التحوّلات الجيوبوليتيكيّة الجذريّة في العالم. فماذا عن هذه التحوّلات؟

1) أهمّها صعود الصين كقوّة عالميّة – خاصة اقتصاديّة ـ مع محاولاتها الالتفات إلى خلفيّتها – آسيا الوسطى – لتأمين الطاقة برّا بدل استيرادها بحرا حيث البحريّة الاميركيّة هي الاقوى، وهذا أمر سيسبّب نزاعا مستقبليّا مع روسيا.

2) سقوط الاتحاد السوفياتي الذي فتح الباب على عودة اللعبة الكبرى في آسيا الوسطى ومحيطها.

3) الوجود الاميركي في قلب عالم النفط، ومجاورته لاهليلج النفط – الخليج + آسيا الوسطى.

4) تراجع اهميّة الساحة الاوروبيّة في الصراع العالميّ، كما تراجع اهميّة الاتحاد الاوروبيّ لفرنسا، خاصة بعد توحّد ألمانيا، وفشل الاستفتاء على الدستور الاوروبيّ

أين ساركوزي من كلّ هذه التحوّلات؟

1) في ظلّ هذه التحوّلات، بدأت فرنسا تدير ظهرها للاتحاد الأوروبي، لكن دون التخلّي عنه.

2) يعي ساركوزي، ان فرنسا هي دولة تطلّ على محيط وبحر (الاطلسي والمتوسّط)، كذلك، هي دولة قاريّة ودولة خارجيّة بحريّة.

3) لذلك، يعرض ساركوزي المشروع المتوسّطيّ. ولذلك قفز نحو الجزيرة البريطانيّة ليلقي خطابه الفريد ـ الجديد.

4) وبذلك، يربط ساركوزي الاتحاد الاوروبيّ بالمبادرة المتوسطيّة، على ان تكون باريس المحور الاساسيّ ـ يبقى الانتظار لقياس مدى النجاح.

5) تزامنت نشاطات ساركوزي مع إطلاق غوّاصة نوويّة جديدة، ومع إعلان خفض الترسانة النوويّة الفرنسيّة لأقل من 300 رأس نوويّ، وهي اقلّ من النصف حسب ساركوزي.

6) اعلن ساركوزي ان النووي موجّه فقط لمن يهدّد المصالح الفرنسيّة. وهنا، وكما فعل ديغول، لا يزال القرار النووي الفرنسي فرنسيّا بحتا.

7) وعند الحديث عن الردّ النوويّ، لا يمكن إغفال ايران خاصة بعد إمكانيّة الوجود البحريّ الفرنسي في دولة الامارات ـ في ظلّ خلاف الامارات مع ايران حول الجزر، خاصة ان هذه المنطقة، كانت عادة من مناطق نفوذ بريطانيا وأميركا وليس فرنسا. كذلك، لا يمكن إغفال المبادرة الفرنسيّة لحلّ القضيّة اللبنانيّة، هذا عدا وجودها الكثيف في قوّات اليونيفيل. في الختام، هناك ثوابت في الاستراتيجيّة الكبرى الفرنسيّة. كذلك، هناك دون شكّ تحوّلات جذريّة في هذه الاستراتيجيّة، وذلك بسبب التحوّلات الجذريّة في موازين القوى العالميّة، إن كان في اوروبا أو في آسيا.

إذا نظرة فرنسا ـ ساركوزي الجديدة، هي نظرة تأخذ في الاعتبار هذه التحوّلات. وهي نظرة تسعى إلى تحسين الموقع، إن كان عبر التعديل في التحالفات، في الخطاب السياسي والدبلوماسيّة، او عبر إعادة ترسيم دور الوسائل خاصة النوويّة. فهل نحن أمام عقيدة لساركوزي؟

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي