التعليم الإلكتروني في خدمة حوار الحضارات

TT

اختتمت في العاصمة الإسبانية مدريد في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي أعمال المنتدى الأول لـ«تحالف الحضارات». وقد حظي هذا المنتدى بتشجيع ودعم عدد من الشخصيات الدولية الإسلامية والغربية وقد أطلقت في أثناء هذا المنتدى مبادرات لتشجيع التواصل ودعم فرص الحوار الثقافي والديني بين الشباب وتبنى المشاركون برامج تأهيلية تمنح الشباب فرصا مهنية وتعليمية أفضل في المستقبل وخاصة بمشاركة أصحاب رؤوس الأموال والصناعة. ولقد أكد المشاركون أن انعقاد مثل هذا المنتدى يعكس الحاجة الضرورية لمعالجة التوتر الحاصل بين الشعوب وخاصة شعوب العالمين الإسلامي والغربي. وذكر الأمين العام للأمم المتحدة أن مثل هذه المؤتمرات الدولية ينبغي أن توظّف في معالجة الخلاف الفكري والثقافي بين الشعوب قبل ان يؤدي إلى زعزعة الاستقرار والسلام الدوليين.

ما زالت مبادرة تحالف الحضارات في بداية مسارها ومن أولويات مهامها حشد الجهود السياسية لتطوير المبادرات والشراكات ضمن إطار التحالف لمواجهة المشكلات الثقافية والتهديدات الأمنية. إن نجاح هذه المبادرة يرتكز على برامجها العملية والتي يتوقع أن تخدم التنمية المستدامة في مجتمعات الدول النامية. ومن أهم البرامج العملية التي تبناها المنتدى هو اعتماد وسائل تقنية حديثة مثل شبكة الإنترنيت لتوفير مصادر معلوماتية تغذي وسائل الإعلام بما يهدف لإزالة سوء الفهم.

ومن البرامج العملية التي يمكن ان تثمر في تحقيق وفاق أوسع بين الشعوب هو استخدام شبكة المعلومات الإلكترونية في توسيع فرص التعليم وآفاقه. إن التعليم هو العامل الأكثر فعّالية في رفع قدرة المواطن على المشاركة في عملية النهضة والتنمية البشرية وسأسرد هنا مثالاً واقعياً. قبل بداية الفصل الدراسي أقوم عادة بتجهيز المحاضرات وغالباً ما تكون هذه في شكل نص مطبوع أو شرائح شفافة. فعادة ما يسهب المدرس في شرحه لتفصيل ما هو مختصر في بيانات الدرس. ومن روعة مهنة التدريس وفضل عطائها هو ذلك التواصل الذي يكون بين المدرس والطالب والذي يؤدي إلى ألفة فكرية وروحية بينهما لا غنى لعملية التعليم عنها.

في صباح ذات يوم من أيام الشتاء الباردة رن التلفون في مكتبي وإذا بزميل لي في قسم التعليم المستمر، جامعة أوكسفورد، يدعوني للمشاركة في تدريس مقرر دراسي فصلي عنوانه «الإسلام والغرب». إلا أنه تدارك بسرعة قائلاً "قبل ان تجيبني، أرجو أن تعلم ان هذا المقرر يدرس عن بعد ومن خلال شبكة الإنترنيت وسيكون لك غرفة تدريس افتراضية (VIRTUAL CLASSROOM) وطلبتك سيبعدون آلاف الأميال عن أوكسفورد. أخذتني الدهشة لأول وهلة، فلم يسبق لي أن ألقيت محاضرة إلا وأنا أتطلع إلى وجوه المستمعين وألمح من خلالها مقدار فهمهم للموضوع. فكيف يكون الحال في غرفة تدريس افتراضية ليس فيها ذلك التواصل. طلبت من زميلي مهلة للتفكير في الأمر وفي البداية كنت أكثر ميلا إلى الإحجام عن الأمر ولكنني قررت أن أخوض غمار هذه التجربة العلمية وأحسن استغلالها في تطوير خبرة جديدة وأساعد في نقل فهم أكثر صحة واعتدالا عن الإسلام والعالم الإسلامي لمن يريد فهمه في الغرب. ومن هنا وجدت أن جميع طلابي هم من غير المسلمين في أمريكا وأوروبا، ومنهم محامون وأطباء وإعلاميون ومن العاملين في المؤسسات المصرفية وغيرهم.

تطورت في العقدين الماضيين حقول من المعرفة مرتبطة ارتباطا أساسيا بشبكة المعلومات الإلكترونية أو الإنترنيت وتسارعت جهود التطوير لتشمل تخصصات حديثة مثل ما يطلق عليه بالتجارة الإلكترونية (e-commerce) والتعليم الإلكتروني (e-learning) وفي الدول المتقدمة توسع حقل التعليم الإلكتروني وأنشئت له مؤسسات متخصصة ومرتبطة بالجامعات غرضها نشر التعليم وإثراء النشاط الفكري في المجتمع. وهكذا بدأت بالتدريس باستخدام البرامج التقنية المخصصة لمثل هذا المقرر والتي أعد لها موقع على شبكة الإنترنيت يسّهل اتصال المدرس والطلبة ببعضهم البعض من خلال خدمة البريد الإلكتروني للمجموعة. كما يوفر الموقع لوحة للكتابة ونشر المناقشات تقسّم حسب المواضيع الأسبوعية وتستخدم هذه اللوحة في عرض الأبحاث والإجابة عن تساؤلات الطلبة. أما جلسة الحوار المباشر فتعقد أسبوعيا ويجري فيها حوار حي بين المدرس وطلبته. كما يتيح الموقع للمدرس متابعة الطلبة وتقييم مشاركتهم في مطالعة المنهج، فالتقنية العالية توفر أرقاما دقيقة عن الوقت الذي يقضيه كل طالب في قراءة النصوص المقررة والمشاركة في الحوار.

ومن المفيد ان نستعرض نموذجا يصف عملية التعليم عبر الإنترنيت ويتكون هذا النموذج من خمس مراحل هي:

1) إيجاد الحوافز المشجعة للدراسة وتفعيل الموقع التعليمي الإلكتروني.

2) تقوية الأواصر بين أعضاء المجموعة الدراسية.

3) تبادل المعلومات المتعلقة بالمقرر الدراسي ومفردات المنهج إضافة إلى المصادر العلمية.

4) مرحلة البناء العلمي وتتم من خلال المطالعة والمشاركة في النقاش بين الطلبة وتبادل وجهات النظر المبنية على أدلة موضوعية فكرية ومستقاة من المصادر العلمية.

5) مرحلة التطوير وفيها يقوم الطلبة بالتحليل و النقد ويبدأون بالبحث عن مصادر جديدة تخص موضوع الدراسة.

في نظام التعليم الغربي، يطلق على أقسام خدمة المجتمع تسمية التعليم المستمر Continuing Education وتؤدي هذه الأقسام العريقة دوراً مهماً في نهضة المجتمع العلمية والفكرية. فهي تسعى إلى توفير فرص التعليم وتطوير الخبرات عند عامة الناس ولا تشترط في المتقدم إلا اهتمامه بموضوع الدراسة ورغبته في الدراسة. بدأت فكرة التعليم المستمر في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج قبل حوالي 130 سنة واليوم يدرس بدوام جزئي part- time في أقسام التعليم المستمر سنويا حوالي 13000 طالب في كامبريدج و17000 طالب في أوكسفورد. وتحقق هذه المؤسسات التعليمية، من وجهة نظر أصحاب القرار السياسي، نمواً اقتصادياً مستداماً إضافة إلى دورها في زيادة الوعي الحضاري عند الأفراد وتكريم إنسانية البشر بمنحهم مزيدا من العلم مما يدعم أسس المجتمع واستقراره.

وضع المؤتمر الأخير لمنظمة المؤتمر الإسلامي على قمة جدول أعماله معالجة ظاهرة الإسلاموفوبيا. وأستطيع القول بعد هذا الاستطراد ان مقرر «الإسلام والغرب» هو من الأمثلة العملية لذلك وقد حقق نجاحاً كبيراً بفضل الله. والخلاصة أن الطلبة اكتشفوا شدة جهلهم بالإسلام وأثار استغرابهم عدم معرفتهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وما حققه للإنسانية من خير. وأبدى بعضهم تفهما لواقع المجتمعات الإسلامية اليوم وحاجتها إلى ضرورات التعليم والعناية الصحية والتغلب على الفقر وأسباب التخلف الاقتصادي وما لدوائر صناعة القرار في الغرب من مسؤولية مشتركة في ذلك.

وأختم قائلا ان التعليم الإلكتروني والدراسة عبر شبكة الإنترنيت من الوسائل المهمة التي ينبغي تطويرها في مؤسسات التعليم العالي وتوظيفها في خطط التنمية البشرية والاقتصادية في الدول العربية والإسلامية. ان التعليم الإلكتروني سيوفر فرصا للدول النامية في المستقبل لرفع كفاءة الأيدي العاملة مما يعزز إجمالي الدخل القومي. وهذا مما أكده بيل غيتس وعبّر عنه بقوله أن الإنترنت قد غيرت العلاقة المألوفة بين الحدود الجغرافية وقدرة الإبداع البشري.

* أستاذ في مركز الدراسات الإسلامية بجامعة أوكسفورد