آلام المخاض في العراق..

TT

جاءتني رسالة جوالة، أي عن طريق الهاتف الجوال أو المحمول أو المتحرك أو الخلوي، على اختلاف التسميات العربية، بمناسبة مرور خمس سنوات على «سقوط» بغداد وسقوط نظام البعث هناك، فحواها أن من كتب محتفياً بسقوط الشمولية والديكتاتورية في العراق آنذاك، عليه اليوم أن يُراجع حساباته، ويعتذر عن ذاك الاحتفاء، فأوضاع العراق اليوم، وبعد هذه السنوات الخمس، لا تسر عدواً ولا صديقاً. خمس سنوات مرت منذ سقوط نظام صدام حسين، والعراق منذ ذلك اليوم الذي أطيح فيه بالتمثال الشهير، كرمز على انتهاء عهد الشمولية وجمهورية الخوف، يرزح تحت نار الدم والعنف وحروب الطوائف والأعراق والأحزاب. خمس سنوات مرت على العراق، تحول خلالها إلى ساحة لتصفية حسابات شخصية وطائفية وعرقية، وعمليات ثأر لأحقاد قديمة وحديثة، وكأنما كان دخول القوات الأميركية وسقوط صدام ونظامه، فتحا لصندوق باندورا الشهير، حيث انطلقت كافة الشرور والآثام والأحقاد والحزازات، حتى أن البعض اليوم يتمنى لو أن صداماً لم يسقط، وأن العراق بقي على ما هو عليه قبل السقوط والغزو ودخول بغداد، ولسان حالهم يقول إن الخبز لذيذ حتى من دون حرية أو أمن. خمس سنوات مرت على العراق والعراقيين وهم يعانون ذل الحاجة، وعفن الموت الذي يُحيط بهم من الجهات الأربع وما يتفرع عنها. خمس سنوات مرت على العراق تحول فيها العراقيون إلى وقود لنار تلتهم الأخضر واليابس، والشجر والحجر وما بينهما. كل ذلك صحيح، فلا يُنكر الوقائع إلا هارب من الواقع، أو متوحد فاقد للاتصال بما حوله. ولكن، ورغم كل ذلك، فأنا من المتفائلين بمستقبل العراق، بل وأعتقد أن الدولة العراقية تشهد ميلاداً جديداً سوف يطغى ويتجاوز الميلاد الهاشمي والميلاد الجمهوري، وهو تفاؤل له مبرراته، حين يُنظر للأمر من زاوية نشوء الأمم والدول، وليس نتاج حلم ليلة من ليالي الصيف، وكل ما في الأمر أن العراق اليوم في حالة مخاض، والمخاض مؤلم بالنسبة للأفراد، فكيف يكون الأمر حين يكون المخاض متعلقاً بالأمم، والدولة هي الوليد المُنتظر.

ما يحدث في عراق اليوم هو في النهاية نتيجة كبت وقمع لتفاعل تلك العوامل والمتغيرات التي لو تُركت لتتفاعل بحرية، لأدت إلى نشوء دولة متوازنة، وأمة يسودها انسجام لا يُلغي الاختلاف وإن كان ينفي الخلاف. لم يكن نظام البعث الصدامي هو السبب الوحيد في قمع وكبت تلك العوامل والمتغيرات، وإن كان متطرفاً في ذلك، ولكن تاريخ العراق كله، منذ دخله سعد بن أبي وقاص فاتحاً، مروراً بعلي والخوارج، والحسين وكربلاء، والحجاج بن يوسف، ودولة بني العباس، والأتراك على اختلاف أصنافهم، وسلطنة آل عثمان، والمحتل البريطاني وما وراء ذلك، في كل ذلك التاريخ، كانت الأمور تغلي في أحشاء الداخل العراقي، ولكنها كانت تكبت وتقمع، فيبدو العراق وكأنه كتلة منسجمة في الخارج، ولكنه كان بركاناً يبدو وكأنه جبل في ظاهره، ولكن النار والحمم تعتمل في داخله، تنتظر أية فرصة للانفجار. انفجارات كثيرة شهدها البركان العراقي، ولكن الانفجار الحالي هو أشدها في تقديري، وهو الذي في النهاية سيفرغ البركان من حممه، فاليوم غير الأمس، والزمن لم يعد ذلك الزمان. لقد كان صندوق باندورا العراقي (وهو ليس الصندوق الوحيد في عالم العرب) موجوداً على الدوام، وكان الناظر إليه لا يفرقه عن أي صندوق آخر، غير عالم بما يحتويه من شرور وكوارث، وإذا كانت الأسطورة اليونانية تقول إن باندورا أطلقت الشرور إلى العالم بفتحها الصندوق، فإن الجانب الآخر غير المتحدث عنه من الأسطورة، هو أن الصندوق قد أصبح خالياً، وهنا بيت القصيد في ما يخص العراق. ربما كان الأميركيون هم باندورا هذا العصر، التي فتحت الصندوق، وربما هم يشعرون اليوم بالذنب، أو يعضون أصابع الندم على فعلتهم، أو مغامرتهم التي أطلقت الشرور في كافة أرجاء المنطقة، ولكنهم في النهاية لم يخلقوا تلك الشرور، على الأقل في منطقتنا، ولكنهم أزاحوا النقاب عنها، وفتحوا الصندوق، وكان لا بد له أن يُفتح في يوم من الأيام، سواء كان ذلك على يد أبناء العم سام، أو على يد أحد أبناء هذا العم أو ذاك من أعمام يزخر بهم التاريخ، ويجود بهم الزمان في كل حين.

مخاض الدول والأمم مخاض عسير، والألم هو السعر الذي تدفعه الأمم والشعوب والدول لتخرج إلى الحياة صحيحة معافاة، فلولا الألم وصرخة الوليد، ما كان الوليد. نظرة سريعة إلى تاريخ الأمم والدول الحية تقول دائماً، إن الألم هو سر الوجود، وإن الموت معبر من معابر الحياة. الدولة القومية الحديثة، كما انبثقت بعد معاهدة وستفاليا في أوروبا، وأحلت الرابطة الوطنية (القومية) محل الرابطة الدينية والعرقية والقبلية والفئوية، وجعلت من «المواطنة» المرجعية الوحيدة للفرد، بغض النظر عن أصله وفصله وعرقه، إنما جاءت بعد صراعات ونزاعات داخلية، اكتسحت في طريقها مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين من الأرواح. الدولة الفرنسية الحديثة مثلاً، لم تستقر وتبدأ في النمو والازدهار بعد ثورتها الشهيرة، إلا بعد أن دفعت الثمن كاملاً من الأرواح والدماء، خلال عقود من الزمان تلت لحظة الثورة. كانت الثورة عبارة عن انفجار لما يعتمل في أحشاء المجتمع الفرنسي من تناقضات، وكان لا بد لهذا الانفجار أن يحدث كي تستعيد الدولة عافيتها، وذلك مثل جسد عليل لا بد أن يلفظ علته بثوراً ودمامل وقروحا تظهر على الجلد، كي يتعافى الجسد في النهاية.

قبل ذلك كانت الحروب الطائفية بين الكاثوليك والهوغوت (1562 ـ 1594)، التي حصدت مئات الآلاف من الأرواح. وفي ألمانيا دامت حروب الطوائف لثلاثة عقود من الزمان (1618 ـ 1648). وفي بريطانيا، الأقل عنفاً والأكثر تماسكاً، دامت تلك الحروب لأكثر من ستة أعوام (1642 ـ 1648). وأوروبا اليوم تجاوزت دولتها القومية أو الوطنية، لتؤسس الدولة الأوروبية الواحدة، ولكن هذه الوحدة لم تأت من دون أن تدفع ثمناً باهظاً عبارة عن عشرات الملايين من الأرواح، وأنهار من الدماء. حقيقة أن الإنسان ليأسى حين تتبعه مسار تاريخ الإنسان على هذه الأرض، وما يصطبغ به هذا التاريخ من عنف ودم وفناء، ويردد مع جان بول سارتر بأن: «الإنسان هو أكثر الحيوانات فحشاً وضراوة وجبناً»، ولكن هذا هو الإنسان في واقعه، وهذا هو التاريخ شئنا أم أبينا، فهو كما يصفه غراهام غرين في وصفه للحضارة: «إن الحضارة قشرة رقيقة من السهل خدشها للكشف عن النزعات البهيمية للإنسان». كم يتمنى المرء أن يكون هذا التاريخ سلساً وطيعاً وجميلاً و«إنسانياً»، وأن يتعظ اللاحقون من دروس السابقين، ولكن ذلك يبقى في حيز أمان وتمنيات لا يقرها تاريخ السابقين، ونرجو أن يتعلم منها اللاحقون.

عودة إلى العراق وما يدور في العراق، فإني أعتقد أن ما يجري هناك هو ظاهرة انفجار تاريخية لقرون من الكبت والقمع على مر تاريخ العراق، فليست القضية في النهاية منوطة بعصا سحرية، ما أن يسقط النظام حتى تزدهر الأمور، فيصبح الخبز والحرية متاحين للجميع، فبمثل ما أن الأحداث التي تمر على الفرد منذ ولادته، بل ومنذ كان في الرحم، كما تقول بعض النظريات، تجد طريقها إلى أعماق أعماقه، فتؤثر على شخصيته وسلوكه، حتى لو لم يكن واعياً بذلك، فإن تاريخ الدول والأمم والشعوب، وتراكمات ذلك التاريخ، يجد طريقه إلى تلك الأعماق الدفينة، حتى يأتي اليوم الذي تجد فيه تلك التراكمات طريقها إلى السطح، كخطوة أو مرحلة لا بد منها، كي يعود الجسد، فرداً كان أو جماعة، إلى بر السلامة، بعد أن أُفرغت حاوية نفاياته من محتوياتها، وهذا في ظني هو ما يحدث في العراق.. هذا هو ما يحدث في العراق..