البصرة بوابة العراق: هل ستكون بوابة استقراره؟

TT

لاشك انه لم يكن بالمستطاع الاستمرار بتحمل الوضع في البصرة، ففضلا عما تمثله من كونها المدينة الأكبر والاهم والأكثر تقدما وحضارة في الجنوب، فإنها خزانة العراق والمصدر الأكبر لدخله، لذا لا تستطيع أي سلطة القبول بأن توضع هذه المدينة تحت رحمة اقتسام النفوذ الذي طالما انفجر صراعا وتصفيات بين الجماعات المتنافسة، ناهيك عن مسؤولية الدولة الأساسية، بل مبرر وجودها، في حماية مواطنيها وحرياتهم الشخصية والعامة التي أهدرت تحت التنميط القسري لأسلوب العيش والحياة والتفكير والتعبير، فحل فيها إرهاب الشارع محل إرهاب الدولة السابق، أو أن يمكن التعايش مع استمرار اغتيالات النخب والأكاديميين والأطباء والنساء، وحيث لا سلطة للقانون ولا هيبة لدولة، التي غابت لصالح عشرات الميليشيات تتصارع فيما بينها على الموارد والنفوذ واقتسام تهريب المشتقات النفطية وتهريب المخدرات وتجارة إدخال البضائع الفاسدة والممنوعة وتتقاسم منافع الفساد في مشاريع الأعمار والخدمات وصولا إلى السيطرة على الموانئ التي من المفارقة أن تتحكم فيها ثماني جماعات ليس من بينها الدولة.

لذا ففي ظل ذلك السؤال كان يجب أن يكون ليس لماذا قامت الحكومة بحملتها الأمنية في البصرة بل لماذا تأخرت فيها؟ الملاحظ أن الدوافع وراء هذه الحملة خضعت لتفسيرات عديدة أولها تفسير الحكومة بأنها لم تكن في وارد مهاجمة التيار الصدري الذي تعتبره تيارا سياسيا وشعبيا كبيرا ولم تكن حتى تريد مواجهة جناحه العسكري جيش المهدي، بل كانت تريد إلقاء القبض على مئتي مطلوب وإعادة سيطرة الدولة على المفاصل الحيوية في البصرة وإنهاء حالة اللاقانون والفوضى، ففوجئت بتصدي جيش المهدي لها ومبادأتها القتال، في حين إن الصدريين من جهتهم يرون أن معاقلهم ومناطقهم الفقيرة استهدفت بدل استهداف الرؤوس الكبيرة التي تدير التهريب والفساد والجريمة في المدينة.

في حين أن تفسيرات كثيرة اشتركت في أن تلتمس ما رأته بإبعاد حقيقية وراء هذه الحملة، أنها تأتي قبل الانتخابات المحلية لاستهداف التيار الصدري كونه ذا قاعدة جماهيرية واسعة بغية إضعافه أو إنهائه، أو بهدف إضعاف ممانعته لتشكيل الفيدرالية في الجنوب، ومحاولة من رئيس الوزراء الذي تعاني حكومته من انسحابات كبيرة ومن شعبيته المتهاوية بالتطلع لهذه الحملة لدفع شعبيته للأعلى وتقوية حكومته، في حين أن آخرين ذهبوا بالتفسيرات أبعد بربط الاستحقاقات العراقية والإقليمية والدولية بهذه الحملة بأنها أتت تمهيدا لأضعاف المعارضة ضد الاتفاقية الأمنية المزمع عقدها مع الولايات المتحدة ولتمرير قانون النفط والغاز.

الذي يلحظ سيادة شبه إجماع على هذه الدوافع وبات يكررها اغلب الإعلام دون إخضاعها لتحليل معمق بل كان يكفي له ان يكون حياديا وغير منساق مع متبنيات جاهزة، فابتدأ بالفرضية القائلة بان رئيس الوزراء أراد بهذه العمليات رفع شعبيته وشعبية حكومته فيرد عليها سير الأيام الأولى للعمليات التي دللت على ان الحكومة فوجئت بسعة وحجم وعنف الرد، بل ان موازين القتال وانفتاح جبهات له في أماكن عديدة من العراق كانت تهدد لا بانهيار الحكومة بل الدولة برمتها، فأي رئيس وزراء حصيف يجازف بذلك، بل حتى على مستواه الشخصي فان يوم الثلاثاء 25 آذار يوم اندلاع المواجهات كان الأصعب، إذ فقدت فيه القوات السيطرة على اغلب البصرة لمصلحة المسلحين بل إن رئيس الوزراء في محل إقامته قصف بأكثر من ثمانين صاروخا وقتل مسؤول أمنه على مبعدة أمتار من غرفته. أما الدافع الآخر الذي ردد فهو بأن هذه العمليات اتت استباقا للانتخابات، الانتخابات المحلية لن تجري قبل سبعة إلى ثمانية أشهر من الان، فأي ذكاء يستدعي هذا التبكير ويضمن ان تظل العمليات محتفظة بأثرها حتى الانتخابات في ساحة كالعراق تتسارع فيها الأحداث وتنقلب الاتجاهات أحيانا بشكل يومي، ثم ان حصول حزب الدعوة على رئاسة الوزراء تم باتكائه على أصوات الصدريين، فالمنطق يقتضي بان اي إضعاف لهم هو إضعاف لحليف، ثم ان المعروف ان التنافس على قيادة الوضع الشيعي هو بين حزبي الدعوة والمجلس الأعلى وأي إضعاف للتيار الصدري لا بد ان يصب في مصلحة المجلس الأعلى الذي يقتسم مع التيار السيطرة على الشارع، فهل من الحصافة ثانية ان يقوم رئيس الوزراء بهذا القتال لإضعاف حليفه الطبيعي لمصلحة منافسه التقليدي الذي سيقطف آنذاك الثمار دون جهد عناء. أما عن العامل الأميركي كمحرض، ففضلا عن تصريحات الاميركان عن عدم استشارتهم في هذه العملية فأنها تأتي ضد توجهاتهم القاضية بالتهدئة في هذا العام لكي لا تنعكس الأمور سلبا على الانتخابات عندهم، بل أنها أتت في أسوء توقيت لهم أتت بأيام عن تقديم كروكر ـ بتريوس لتقريرهما أمام الكونغرس وهو الذي كان من المفترض لولا هذه العمليات ان تكون لهجته أعلى وأكثر افتخارا بالتحسن الأمني في العراق.

أعود إلى طرف المعادلة الثاني وهو التيار الصدري والذي على الرغم مما يشعر به من استهداف ومن مرارة الخذلان فان الفرصة لم تفت عليه وبإمكانه أن يكون عصيا على الإضعاف بان يفصل ما بين الشعبية والشعبوية، والقاضية بان يقود شارعه ولا يترك شارعه يقوده ويغادر الحالة الهائمة، عبر وجود قيادات تعقلن وتنظم وتستثمر طاقات جمهوره، إذ ان قوة التيار الشعبية منعته عن أن يدرك حاجته إلى نخبوية تجيد توجيه هذه القوة ومنحها الهوية السياسية.

أن الظروف التي أثرت في سلوك التيار وحولته إلى الطابع الميليشياوي أنتجتها عوامل موضوعية عدة من بينها الهجمات الإرهابية الوحشية التي استهدفت محيطه الاجتماعي في غياب دولة قادرة على حمايته، إلا ان هذه المرحلة واجب التحول عنها الان إلى العمل السياسي والمجتمعي الذي سيجعل التيار رقما رئيسيا يجبر الآخرين على أن يعيدوا بناء هوياتهم تحت إلحاح وجوده.