السأم

TT

في مكان قصيٍّ بأعالي جبال لبنان، وسط «ضيعة» تعبق دروبها برائحة الزهور والمطر وأشجار الصنوبر، اخترت أن أقضي أسبوعين بعيداً عن القراءة والكتابة.. كنت في الصباحات أنادم القرويين البسطاء الذين يطرزون المدى بالمواويل، وفي الليل حينما تؤوي تلك «الضيعة» الصغيرة إلى خدرها لتتدثر بالصمت، التصقُ بزجاج النافذة، منصتاً لمعزوفة الريح، وهمس السنديان..

أيام جميلة عشتها هناك، حتى ذلك المساء الذي زارني فيه صديق ليخلف بعد رحيله صحيفة، اختلست النظرَ إلى بعض عناوينها، ثم قاومت فضولي، وهربت منها إلى مقهى صغير يظل يفتح أبوابه حتى ساعة متأخرة من الليل. صاحب المقهى مثقف ومفكر آثر الاعتزال أو العزلة في ذلك المكان النائي ليعيش وسط الطبيعة العذراء، تحيطه أشجار الحور والسنديان والزيتون والصنوبر.. يملأ وقت فراغه بزراعة الكروم والتين والخوخ في الحديقة الخلفية لمقهاه. وإذا ما حل المساءُ أشعل فتيل قلبه بوحاً للزائرين والعابرين..

حينما وصلت للمقهى كان صاحبه يترنم بأبيات لدرويش:

«لم يبق في اللغة الحديثة

هامش للاحتفاء بما نحب،

فكل ما سيكون.. كان

سقط الحصان مضرجاً بقصيدتي

وأنا سقطت مضرجاً بدم الحصان».

لكنه لم يكمل القصيدة، وآثر أن يطلق في الليل صوت فيروز لنتقاسم الشجن..

حينما عدت إلى البيت كانت بيادر الصباح تغسل نوافذ الدور من بقايا الغسق، وكانت الصحيفة لم تزل تتربص بي، مددت أناملي نحوها في انكسار فاغتالتني العناوين، أحسست أن كف الزمن تقبض على معصمي كي لا أهرب من جديد، فاستسلمت لمصيري، وقلبت صفحاتها.. ذبابة سمجة ظلت تحوم وتتراقص قبل أن تنقض بحركة هستيرية على صورة كاتب مرتزق، فتقف على أنفه حينا، وتبصق على كلماته حينا آخر، ولست أدري من أبْلَغَ الذبابةَ بموقع سلة الزبالة في تلك الصحيفة!.. قررت أن أجري تجربة غريبة فقمت بقص مقال ذلك الكاتب، ووضعه بعيداً في أحد أركان الغرفة، وكانت دهشتي كبيرة حينما وجدت الذبابة تحوم حول المقال وصورة كاتبه قبل أن تمارس الركل والعض والتقيؤ وأفعالا أخرى أكثر بشاعة مما ذكرت، ولم تمض سوى دقيقة واحدة حتى تحولت القصاصة التي احتوت المقال إلى مزق تعبت في إعادة تجميعها لأواصل التجريبَ، ومضيت أقرأ بصوت عالٍ بعض عبارات ذلك الكاتب لتنتاب الذبابة حالة هستيرية، فتصطدم بأرض الغرفة حيناً، وترتطم بسقفها حيناً آخر وكأن بها مساً من الجان، فانتابني الحزن على الذبابة ـ طبعاً ـ وحملت قصاصة المقال لأقذف بها من النافذة، فتهاوت كجثة غرابٍ قتيلٍ لتهبط على عربة نقل النفايات التي كانت تمر بالشارع في تلك اللحظة، ومضت العربة تجر خلفها طوابير طويلة من الذباب.

[email protected]