مبادرة كبرى لملك كبير

TT

تلك هي المبادرة الأكبر للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز. فدعوته لحوار الأديان أتت في وقت تعيش فيه المجتمعات والدول لحظة تخبط وضبابية، لدرجة سادت فيها العالم مقولات صادمة كصراع الحضارات وصراع الأديان. جوهر المبادرة أنها تسعى إلى إقامة جسور مشتركة بين الأديان، جسور قائمة على الأسس الأخلاقية الجامعة بين الأديان كلها، مثل الحفاظ على التماسك الأسري، وهو بلا شك حجر الزاوية في بناء المجتمعات السليمة. حوار الأديان لن ينتهي اليوم أو غدا، إنه أمر سيبقى لأجيال قادمة. لذا يكون ضروريا الاستجابة الدولية لهذه الدعوة، متبوعة ببناء مؤسسات دولية تحافظ على استمرارية الحوار وحيويته. كما أنه لا بد من التحسب وعدم الاستهانة بقدرات المؤسسات والجماعات التي تحاول دائما تفريغ كل مبادرة جادة من مضمونها، وخصوصا في العالم العربي. ففي العالم العربي تسير السياسات (policies) في اتجاه، بينما السياسة ( (politicsتسير في اتجاه آخر. على سبيل المثال، سياساتنا التعليمية والتكنولوجية جميعها يقتدي بالنماذج الغربية الناجحة، بينما خطابنا السياسي في معظمه رافض للغرب. انفتاح الملك عبد الله على الديانات والثقافات الأخرى، محاولة فريدة لدمج السياسات والسياسة وجعلهما يسيران في طريق واحد. وهذا الانسجام بين السياسات والسياسة هو أمر مطلوب في كل الدول العربية.

الغرب، وهو بطبيعة الحال الطرف المقابل في حوار الأديان، ملزم بأن ينظر في الأمر بجدية عالية، فهذه مبادرة يطرحها ملك الدولة ذات الثقل الأكبر في العالم الإسلامي، ومركز الجاذبية الأقوى لعموم المسلمين. إضافة إلى أهمية المبادرة التي تكمن في عالميتها، فهي تتصدى للأزمة التي تعاني منها أغلب المجتمعات في الوقت الحاضر، أزمة قاربت أن تأخذ شكل الصراع والصدام، ولو أخذنا في الاعتبار الحجم البشري الذي تتوجه إليه هذه المبادرة، وحجم التأثير الذي ستفعله في العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والدول في حال تطبيقها، لاستحق أن يكون العاهل السعودي من أقوى المرشحين لجائزة نوبل للسلام.

مبادرة الملك لحوار الأديان هي الثانية بعد مبادرته الأولى للسلام التي تبنتها الجامعة العربية في مؤتمرها المنعقد في بيروت عام 2002. مبادرة جريئة تؤكد على الثقة الحضارية بالإسلام كدين تعايش وحوار وسلام، مبادرة مرتكزة على الأساس القرآني المنفتح على الآخر المختلف: «لكم دينكم ولي دين». وإن جرأة طرح المبادرة من زعيم مجتمع محافظ، كالمملكة العربية السعودية، تنبع من أن الملك عبد الله يتمتع بشعبية كبيرة في المجتمع السعودي، شعبية حقيقية تقف خلفه وتثق بحكمته وتطمئن لقراراته ومبادراته. من يزور الرياض مثلا، سوف يرى كيف خطت البنات صورة الملك على عباءاتهن، وكيف يضع الشباب صورته على السيارات، صورة كبيرة تحمل اسم صقر العروبة من دون ذكر لاسمه.

كان واضحا من كلام الملك أن مبادرته لحوار الأديان لم تكن وليدة الأمس، حيث أشار إلى أن الفكرة كانت تراوده منذ عامين، وأنه عرضها على العلماء في المملكة الذين وافقوا عليها ورحبوا بها. هنا نقطتان مهمتان؛ الأولى هي أن الملك يعرف أن مبادرة كهذه تحتاج إجماعا حولها قبل أن تطرح، وهذا ما يفعله رجل الدولة الحصيف. وأن هذا الإجماع يجب أن يشمل من هم مهتمون بالأمر، والعلماء في المملكة يمثلون هذه الفئة. النقطة الثانية، هي المدة الزمنية الطويلة (عامان) التي تطلبها التفكير والإعداد لهذه المبادرة. الملك عبد الله يدرك جيدا تركيبة المجتمع السعودي التي تحتاج إلى قياسات مختلفة للرأي العام. أخذ الوقت اللازم للتفكير والإعداد، ولكنه خرج بمبادرة جريئة طموح تمد يدها لجميع العالم من قلب بلد هو الأكبر وزنا في العالم الإسلامي. الكثير من الساسة يبحثون عن شعبية سهلة فيتبنون خطاب الكراهية للآخر الذي سرعان ما يلقى قبولا لدى العوام. أما الملك عبد الله فقد اختار لغة الانفتاح والحوار بشجاعة كاملة، لا بد للعالم من أن يقف خلفها.

تقدير المبادرة لا يكون بالمديح، ولكن من خلال بناء مؤسسات وتنظيم مؤتمرات عالمية لحماية حوار الأديان. كأن يقام مؤتمر عالمي كبير، سواء في المملكة أو في واحدة من كبرى العواصم العالمية، حوار تكون الدول هي الأساس فيه، وتدعمه منظمات مدنية عالمية معنية بحوار الأديان.

حوار الأديان هو الداعم الثقافي والحضاري الذي سيقوي الكثير من المبادرات الدولية ويهيئ المناخ العام لإنجاحها. فمثلا، عندما يكون هناك حوار بين اليهودية والإسلام، كدينين سماويين، فمعنى ذلك أنه بدئ في بناء الجسور الثقافية الإيجابية بين اليهود والمسلمين، مما يجعل مناخ السلام ممكنا إذا ما بذل السياسيون جهودهم. وفي هذا السياق، تكون مبادرة الملك عبد الله لحوار الأديان هي الإطار الأرحب والأوسع الذي يحتضن مبادرته للسلام العربي الإسرائيلي. إذا فهم الغرب هذه المبادرة بعمقها الكبير، فإن الأفق سيكون مفتوحا لفهم أوسع للمشاكل القائمة بين الغرب والمسلمين.

مبادرة الملك عبد الله لحوار الأديان هي أيضا السياق الثقافي ذاته الذي تضطرب فيه قضية المسلمين والمواطنة في بلاد الغرب. عندما زار العاهل السعودي المملكة المتحدة أخيرا، ألقى كلمة مهمة في العشاء الذي أقامته على شرفه ملكة بريطانيا. في هذه الكلمة، نصح الملك عبد الله المسلمين في الغرب أن يكونوا مواطنين صالحين في بلدانهم الجديدة. وبذا يكون الملك قد لخص في كلمته القصيرة أزمة الغرب مع من يعيشون فيه اليوم من المسلمين، وهي أزمة المواطنة. حوار الأديان لا بد وأن يكشف مساحات من الفهم المتبادل ويلغي مسافات من سوء الفهم وأحيانا سوء النية بين مسلمي الغرب ودولهم.

مبادرات الملك عبد الله كل متكامل. من تأسيسه للحوار الوطني في الداخل السعودي، بكل أبعاده بما فيها قضية المرأة والشيعة، إلى رعايته للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني في مكة، وكذلك دعوته لحوار بين السنة والشيعة في العراق، إلى مبادرته التاريخية للسلام بين العرب وإسرائيل، إلى دعوته الأخيرة لحوار بين الأديان. مبادرات الملك تنم عن فكر استراتيجي شامل يؤمن بالحوار ليس مع الداخل فحسب، بل حتى مع الخارج، صديقه وعدوه. وهذه حالة نادرة في الذهنية العربية التي لا يكون عادة فيها الحوار هو الصيغة السائدة أو المطروحة.

يجب ألا نغفل عن أن هناك جماعات في الشرق، وكذلك في الغرب، كارهة للحوار وتتعيش على الصراع. تلك الجماعات ستبذل كل جهدها لتخريب المبادرة، أو في أحسن الظنون، ستعمل على تفريغها من مضمونها. وهنا لا أتحدث عن متطرفين من فئة بن لادن والظواهري فقط، إنما هناك مجموعات قد تغلغلت في أجهزة الدولة العربية والغربية (البيروقراطيات والمستوطنات الآيديولوجية) تحاول إحباط أي محاولة لتفاهم حقيقي بين الشرق والغرب. يريدونه حوارا مع منظمات وحركات، لا حوارا بين دول يحكمها قانون دولي واتفاقات دولية.

لذا ولكي تنجح هذه المبادرة لا بد أن تبقى على زخمها المرتبط بشخصية الملك عبد الله بن عبد العزيز، فتتبناها أجهزة الدولة السعودية، لا أن تسلم إلى الجامعة العربية أو إلى مؤسسات قد تميعها وتنقلها من عالم الجدية إلى عالم العلاقات العامة والرحلات المكوكية لبيروقراطيين عرب وغير عرب. قيمة المبادرة ترتبط بتلك السمعة العالية التي بناها الملك عبد الله لنفسه ودولته في الشرق والغرب، فهو الرجل الذي يحظى باحترام بابا الفاتيكان، ويثق به رؤساء الدول العظمى والصغرى، الإسلامية منها والمسيحية والعلمانية، ثقة نابعة من صدق الرجل وانسجام قوله مع فعله.

مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان مبادرة كبرى من ملك كبير.