ما بعد العولمة: الهوية واللغة والحق العربي

TT

قال ضيفي المسؤول الإعلامي الغربي الكبير: «كنّا نشعر كإعلاميين أننا موجودون لكن دون أن يشعر أحد بوجودنا، نراقب الحدث، ننقله من خلال عالمنا الخاص دون أن يتدخل بنا أحد أو يقاربنا أحد. أما اليوم فنحن نشعر أننا في قلب الحدث وذلك لكثرة محاولات التدخل في صياغة الخبر وشكل الخبر. أصبحت كلّ كلمة نقولها وكلّ جملة نصوغها مثار جدل لأصحاب المصلحة في الخبر ولقد أرهقتنا الأطراف التي تحاول أن يظهر الخبر بطريقة تخدم مصالحها، والأطراف التي تشكو إذا كانت أية صورة أو فكرة تميل ولو بدرجة بسيطة عمّا يريدون». أجبت بقولي «ولكنّ العرب لا يتعبونكم في هذا الصدد فهم ما زالوا يؤمنون بموضوعيّة وحريّة إعلامكم ويتركون الأمر لكم، وإن تكن التغطيات الإعلامية الغربية قد برهنت أنكم لا تُعاملون الأحداث بطريقة منصفة للجميع». وضربت له مثلاً المحرقة التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين العزّل في غزة في الأسبوع الأول من آذار حين قتلت «140» مدنياً فلسطينياً منهم «39» طفلاً و«12» أماً، ولم أر أي تغطية مناسبة ولا حتى ذكر اسم أو صورة أي منهم في وسائل الإعلام الغربية. بينما حين قُتل ثمانية إسرائيليين تبارت وسائل الإعلام الغربية بكافة أشكالها لتغطية الخبر ونشر الصور والقصص التي أنبأتنا بكلّ شيء عن حياة الضحايا والمأساة التي يعيشها أهلوهم وأصدقاؤهم بسبب فقدانهم. أجاب ضيفي «إن جزءاً من السبب هو لوجستي بحت، فنحن لدينا مكاتب في القدس مع أجهزة وكاميرات ومن السهل جداً الوصول إلى مكان الحدث وتصويره وليس من السهل أبداً الوصول إلى غزة، مع انّه لدينا بعض الأفراد هناك ولكن ليس لدينا مكتب لأننا نخشى على موظفينا، كما أنّ الحواجز الإسرائيلية تجعل من الصعب جداً علينا الوصول في الوقت المناسب لتغطية الحدث». أجبته بما كنت قد كتبت سابقاً منذ سنوات وهو أن الحصار الذي فرضه الكيان الصهيوني على أهلنا في غزة ترافق أيضاً مع حصار فرضته قوات الاحتلال على الإعلام العالمي بعد أن أرهبت هذا الإعلام من خلال قتل إعلاميين كبار مثل جيمس ميللر وتوماس هوراندال والناشطة الإنسانية راشيل كوري وبعد أن اتَّبع الكيان الصهيوني أسلوب التنكيل بالإعلاميين وسجنهم وإرهابهم.

وأضفت إذا كان من الصعب على الكاميرا أن تصل إلى مكان الحدث في الوقت المناسب فهل يصعب على الإعلام المكتوب أن ينشر الخبر في اليوم التالي مع قصص الشهداء كي يطّلع العالم على ما يجري؟ أجابني بلطف وتعاطف «يتعرض مراسلونا ومكاتبنا لقصف من المعلومات شديد ولإلحاح ولضغوط للأخذ بالمعلومة المرسلة إلينا بينما لا نتلقى أي معلومة ولا يُمارسُ علينا أي تأكيد أو ضغط من الجانب العربي، والإعلامي الذي يبحر في كم هائل من المعلومات ينهال عليه قد لا يجد الوقت أو العزيمة ليذهب ويبحث عن الخبر البديل الذي لم يصله أصلاً من خلال وكالات الأنباء أو جهات أخرى معنية، ويعتقد أنّ الحدث الأهم هو ما يصله من هذه المعلومات». أجبت بأنني أعتقد أن القصة أبعد من ذلك لأني أراقب الساسة الغربيين جميعاً الذين لم يدينوا قتل طفل أو رضيع عربي واحد في فلسطين أو لبنان أو العراق ولكنّهم يتسابقون لإدانة قتل أي إسرائيلي. قال لي «يجب ألا ننكر أن الإسرائيليين يبذلون جهداً كبيراً لإيصال المعلومة التي يريدون في الوقت المناسب ويتابعون إجراءات نشرها وقد نجحوا في أن يجعلوا العالم يشعر بالذنب إذا قصّر في إيضاح ما يتعرضون له بينما لم يبدأ العالم العربي هذا المسار. وإذا سألت معظم الإعلاميين الغربيين لا يشعرون أنّ العرب مهتمون بالإعلام أو أنهم منفتحون على الإعلام أو يتابعونه ويلحّون على حضور أخبارهم به بالطريقة والوقت المناسبين».

كان ذلك يوم الخميس الموافق 10 نيسان وكانت إسرائيل قد قتلت في اليوم الذي سبقه ثمانية فلسطينيين بينهم طفلان وشقيقان هما عاطف الغرابلي (28 عاماً) وأحمد (16 عاما) بينما لم يكن ضيفي قد قرأ في الصحف الغربية سوى مقتل «3» إسرائيليين وقال عنهم مدنيين، فقلت هم ليسوا مدنيين بل جنود احتلال، فأخذ يسألني إذا ما كنت متأكدة من أن إسرائيل قتلت أطفالاً يوم الأربعاء وما إذا كنت «قد شاهدت ذلك بنفسي» وكأنه شاهد «بنفسه» مقتل جنود الاحتلال، ولكنّه اعترف أنه «لم يستطع أن يجد لمقتل الفلسطينيين حتى الأطفال منهم أثراً في الإعلام الغربي». وهنا أعود لما كنت قد بدأته الأسبوع الماضي بأننا كعرب نُحبط ونتألم، ونُغمض أعيننا حين يكون المنظر مؤلماً جداً، والبعض يتحدّث عن عدم قدرته مشاهدة أطفال العرب يقتلون بدم بارد من قبل عدو مدجّج بالوحشيّة، ولكننا لا نخصص الوقت والجهد اللازمين لنضمن على الأقل أن يصل صدى قتل أطفالنا إلى ضمير العالم، وعلى الأقل أن نشتكي. فحين تنشر وكالات أنباء ومصادر إعلامية معادية الأخبار عما يجري في منطقتنا، ولا يبادر الإعلاميون العرب إلى إعطاء الصيغة الفعلية لواقع الخبر من وجهة حقيقية تبقى تلك النسخة المعادية عن الخبر هي الوحيدة المتاحة، وتصبح كأنها الحقيقة الوحيدة الموجودة. وهناك أمثلة لا تعدّ على ذلك. فمنذ سنوات والمخابرات الإسرائيلية تخطف في جنح الظلام شباناً ونساء فلسطينيين من بيوتهم بذريعة أنهم «نشطاء» أو «مشتبه فيهم» وتزج بهم في غياهب تعذيبها وسجونها لسنين طويلة ولكنّها تصدّر الخبر بأنها «توقف» شباناً فلسطينيين. وقد استخدمت التعبير نفسه حين ارتكبت جريمة اختطاف رئيس برلمان فلسطين وأعضاء في البرلمان ووزراء وأودَعتهم سجونها وما زالوا هناك لسنوات دون أن يثير البرلمانيون أو الإعلاميون الأجانب، أو العرب، على الأقل، ضجّة كبرى في البرلمانات العالمية لهذه الجريمة النكراء التي يُسَجل لإسرائيل الريادة فيها! كما أن إسرائيل تستخدم لوصف كلّ جرائم القتل والاختطاف والتدمير التي ترتكبها في فلسطين ولبنان، كذلك الحال قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، عبارة «عملية»، وهي كلمة محايدة لا توحي بأي اعتداء أو جريمة، وكلّما ارتكبت إسرائيل جريمة قتل مدني في أي مكان تبرز مصادر الجيش الإسرائيلي الخبر بأنّه كان «مشتبهاً فيه» أو «ملاحقاً» أو «ناشطاً» أو أنه من «حماس»،.

لقد أسرت المقاومة الفلسطينية الجندي جلعاد شليط أثناء القتال فجعل الإعلام الإسرائيلي من اسمه أيقونة يحفظها العالم برمّته، بينما هناك آلاف المختطفين من المدنيين العرب بمن فيهم أمهات حوامل وأطفال في سجون التعذيب الإسرائيلية، يُطلِق عليهم، حتى إعلامنا العربي، اسم «سجناء»، وهم مخطوفون، من منازلهم أو مكاتبهم أو بساتينهم أو مدارسهم. ولكثرة الصياغات اللغوية المضللة التي تصنّعها الأجهزة الإسرائيلية المتخصّصة والتي غمرت بها الإعلام الغربي في الأسبوع الأول من آذار لدى ارتكابها أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني كتب صحفي بريطاني مطّلع، هو سيوماس ميلن، في جريدة «الغارديان» البريطانية (5 آذار 2008): «إن لوم الضحايا على موجة القتل هذه يناقض الأخلاق والمنطق». وجواباً عن السؤال: ما الذي يمكن أن تفعله إسرائيل لوقف الصواريخ ضدّها؟ أجاب ميلن: «يمكن لإسرائيل أن تنهي احتلالها وتوافق على تسوية لائقة لقضيّة اللاجئين الفلسطينيين». إن ما كتبه هذا الإعلامي وبعض الإعلاميين الآخرين المتنوّرين في الغرب يُري أن العالم جاهز ليسمع من الرسميين العرب، ولكن أكثر من الإعلاميين العرب، القصة الحقيقيّة لما يجري في فلسطين والعراق.

رأس المال المعادي استثمر في هذا المعترك الإعلامي فحقّق نجاحاتٍ مالية وسياسية فعلاً، ولا بدّ للإعلاميين العرب من أجل المساهمة بدورهم في صون حرية شعوبنا واستقلال بلداننا وإرادة دولنا من أن ننقل الحقيقة باستخدام لغتنا الثريّة أولاً، ولكن أيضاً اللغات الأخرى، ولا بد من صياغة المصطلحات الإعلامية لمقارعة سيل الأخبار المضلّلة التي يغذي بها أعداؤنا العالم دون أن يقدّم الإعلاميون العرب بديلاً جاداً ومقنعاً لها. لا شك أن البدايات ستكون صعبة، ولكن الحكمة والحنكة في صياغة أخبار تعكس جرائم الأعداء وعدالة قضايا الحرية والكرامة، التي يدفع المدنيون العرب حياتهم ثمناً للدفاع عنها.