«مفارز الإعلام» تحفة الأنظمة الأمنية

TT

بعدما اتفقت الآراء على ان القمة العربية الاخيرة لم تحقق اي اختراق على مستوى التأزم في العلاقات البينية ولا في القضايا العربية الاساسية من لبنان الى فلسطين وصولا الى العراق. عادت الى الواجهة بقوة حرب الشائعات الامنية لترخي بثقلها على الواقع العربي وتعيد رسم قواعد الاشتباك من بوابة التسريبات الاعلامية التي برع النظام في سوريا بإدارة دفتها في مواجهة خصومه خلال وجوده في لبنان، وعاد ليستخدمها على الساحة العربية في سياق المواجهة المفتوحة مع المملكة العربية السعودية.

وان كان سجل اخيرا تبادل الرسائل الاعلامية من الوزن الثقيل بين المملكة والسلطة في سوريا، فان طول باع الاخيرة وخبرتها الطويلة في ميدان صناعة الحبكة الامنية لمضابط الاتهام الاعلامية التي يدبّجها كتبة ماهرون في هذه الصناعة يعطي السبق والتفوق الكامل لمكنة اعلام الادارة السورية ونسخها المنقحة لبنانيا والمدعومة حديثا من الاعلام الايراني الذي دخل الميدان العربي مؤازرا حليفه السوري وان كان متخلفا عنه لناحية الخبرة والحرفية.

وإذا ما تم تجاوز حملات اعلامية، استهدفت رموز المملكة وتراثها وبعض انماطها الثقافية، وتصدرت واجهات بعض المواقع الالكترونية التابعة مباشرة لجماعات تدور في فلك النظام السوري، يمكن للمتابع ان يرصد ثلاث محطات رئيسة شكلت خريطة طريق لـ«الاعلام الامني» الذي وجهت عبره السلطة السورية حملة منظمة ضد السعودية على ايقاع اجندة سياسية محكمة تتمحور حول الملف اللبناني.

اكتملت المحطة الاولى مع اغتيال رفيق الحريري الذي ادى الى تصلّب سعودي في التعاطي مع الاداء والوجود العسكري السوري في لبنان. فكان الرد من النظام السوري بضخ اعلامي امني وضع في البداية علامات استفهام حول هوية بعض الموقوفين المشتبه فيهم في جريمة اغتيال الحريري، ثم عاد ليؤكد ان غالبيتهم من التابعية السعودية محاولا نقل التهمة من اشتباه في سعوديين تكفيريين الى ادانة للسعودية! علما ان المفارز الاعلامية نفسها حاولت الايحاء في المضابط الاعلامية ذاتها بان السوريين المشتبه فيهم والذي ينتمي بعضهم الى اجهزة الامن في سوريا هم مجموعة من الخارجين عن وطنيتهم وان احدهم كان مختلا عقليا وهو من رتبة ضابط صف في جهاز المخابرات السوري.

اما المحطة الثانية فكانت مع التمسك السعودي بانجاز المحكمة ودعمها، حيث جاء رد المفارز الاعلامية السورية وتوابعها بتنسيق حملة منظمة سلطت الاضواء على بعض السعوديين التكفيريين الذين ينتقل معظهم عبر سوريا للقتال في العراق وفق اعتراف مسؤوليين سوريين، كما تم تكبير حجم مشاركة مقاتلين سعوديين في معارك مخيم نهر البارد شمال لبنان. وانتظمت الحملة على ايقاع التأكيد بان السعودية تتحمل مسؤولية عن سلوك هؤلاء التكفيريين الذين يناصبون المملكة وحكامها العداء. وضربت «المفارز الاعلامية» صفحا عن استخدام الاراضي السورية في عمليات التزود اللوجستي وفي العبور الى العراق ولبنان، وتم تجاوز السوريين الذين يقاتلون في العراق وفي نهر البارد تماما كما تم تجاوز قضية شاكر العبسي الذي غادر السجون السورية الى شمال لبنان. لكن هذه التجاوزات طرحت جانبا سؤالا بالغ الاهمية، اذ كيف تقوم هذه الجماعات التكفيرية المحتشدة من كل اقطار العالمين العربي والإسلامي بالعبور الى لبنان والعراق ذهابا وايابا عبر سوريا ـ التي شكلت بالنسبة لها محطة تذخير لقتال الجيش الاميركي المحتل في العراق والجيش اللبناني الوطني في لبنان! ـ من دون ان تضرب او تغمز اي من هذه الجماعات من قناة النظام العلماني السوري ولو على قاعدة رفع العتب؟

المحطة الثالثة تمثّلت في اصرار السعودية على ربط المصالحة العربية مع النظام السوري بحل القضية اللبنانية، الأمر الذي حفّز مكنات «المفارز الاعلامية» على الشروع في حملة متجددة لاحت نذرها ولم تتبلور فصولها بعد، ولكن حبكتها الاساسية تدور حول اغتيال القائد في المقاومة الاسلامية عماد مغنية، ومع ان الاغتيال حصل داخل حي كفر سوسة قلب دمشق، حيث تنتشر المفارز الامنية وعلى مقربة من مكتب اللواء اصف شوكت وهو العمود الفقري لجهاز الامن السوري، الا ان التحقيق استقر بحسب المعلومات التي تسربت من بعض «المفارز الاعلامية» على كاهل ثلاثة مواطنين سعوديين تلبسوا، وفق الراوي، جنسية عربية اخرى ونفذوا الاغتيال المريب في توقيته ومكانه وفي حجم الهدف ومكانته الامنية والسياسية. وإذ يحلو للبعض ان يقفز فوق توقيت اغتيال مغنية الذي اعطى ورقة مهمة لفتح جبهة الجنوب اللبناني عند الطلب من خلال المباشرة بعملية ثأرية تفتح جحيم حرب لبنانية اسرائيلية يكون فيها لبنان ودماء قادته وبنيه كالعادة كبش فداء عن حروب و«ضربات» دولية ـ اقليمية. واذا حلا للبعض الاخر ان يتجاهل الواقع الامني المحيط بمسرح الجريمة الذي زالت معالمه قبل ان يجف دم مغنية. وإذا ما وجد آخرون الا ادلة ملموسة على الربط الزمني والحدثي بين اغتيال مغنية واللمسات الاخيرة على محكمة الدولية في قضية الحريري، وسط تزايد الحديث عن صفقات ومقايضات كبرى كشفت عنها بوضوح وزيرة الخارجية الاميركية امس عندما اكدت الا صفقة مع سوريا على المحكمة الدولية وان دمشق تسعى الى تسوية ما. وإذا رأى احدهم الا مسوغ لربط اتهام سعوديين باغتيال مغنية بالوعيد السوري للسعودية الذي سربته بعض «مفارز الاعلام» قبل القمة مهددة المملكة بمرحلة مواجهة غير مسبوقة بعد القمة.

اذا كان يحق لأحد ان يعرض عن كل ما سبق من ملابسات حول قضية مغنية والتورط المزعوم لمواطنين سعوديين، فان احدا لا يمكنه ان يقبل بسذاجة مطلقة ان يقوم ثلاثة سعوديين باعتمار قبعة الاخفاء ودخول سورية بجوازات مزورة، ثم الاستعانة بالعين السحرية لكشف وجه ومكان الرجل اللغز، واستخدام فانوس علاء الدين للوصول الى ذاك المربع الامني وتنفيذ الجريمة.

بعد اكتمال المشهد الذي تسعى «مفارز الاعلام» الى تظهيره لا بد من الاشارة الى زاوية بالغة الاهمية وهي ان الاعلام الموجه والمفبرك يصلح في غسل عقول الجماهير المقموعة داخل جدران بلدانها، لان الخيارات البديلة غير متوفرة، وان وجدت فهي غير قابلة للترجمة العملية او النظرية، لكنه اعلام قاصر عن غسل العقول مطلقا، والاهم انه يلعب برزنامة ذاكرة الناس لكنه لا يتمكن من الغائها، ويستطيع ان يزيف الوقائع لفترة من الزمن الا انه يعجز عن تغيّيرها او طمسها... فبينما كان الصحّاف يؤكد ان العلوج يتساقطون على اسوار بغداد كانت بغداد تسقط في قبضة المحتل ليسقط معها الصحّاف ونظامه و«مهازله الاعلامية».