ماذا علينا أن نستنتج وسط ضباب المناورات؟

TT

الصراحة السياسية في الشرق الأوسط أضحت استثناءً، وكان ذروتها إقدام قادة دول عربية بارزة على مقاطعة «قمة دمشق» الأخيرة بعد استنزاف آليات الدبلوماسية المهذبة.

فقد تبين بالدليل الملموس أن بعض اللاعبين الإقليميين، رغم الكلام الأخوي المعسول، يلعب «لعبة تقطيع الوقت» بانتظار ظرف دولي مؤات لفرض نفوذه بمباركة دولية تأتي من قبيل الاعتراف بالأمر الواقع.

اليوم ما عاد ثمة شك في أن الاختراق الإيراني السياسي والأمني والعسكري للمشرق العربي صار حقيقة واقعة.

وهذا الاختراق، لو كان منسجماً مع شعاراته المعلنة، لبدا في أي ظرف من الظروف مبرّراً ومقبولاً. فإيران حتى في القرون الغابرة لم تكن غريبة عن المنطقة العربية. إذ احتل الفرس معظم ساحل شرق المتوسط.. ووصلوا غرباً إلى سواحل اليونان، كما استغاث بهم سيف بن ذي يزن في اليمن للتخلص من هيمنة الأحباش في جنوب البحر الأحمر. ولاحقاً، بعد الفتح الإسلامي صارت إيران جزءاً من دولة الخلافة، وخرج منها رجال عظام أغنوا الإسلام في ميادين الجهاد والفلسفة والعلم والأدب والفن.

إيران، ليست «طارئة» علينا إذاً.

إنها دولة «جارة»، و«جيرتها» حقيقة لا تلغيها الأهواء والأمزجة والأنظمة.

غير أن مشكلتنا الراهنة مع «الجارة» العزيزة الكبيرة أن لها ترجمتها الخاصة لـ«حسن الجوار». تماماً، كما أن لها مفهوماً خاصاً في ممارسة السياسة، وفي التعامل مع الشعوب متجاوزةً الأنظمة، من منطلق نشأتها «الثورية» وهَوَسها بإنقاذ «المستضعفين» من براثن «المستكبرين» عليهم.

ثم أن إيران 2008، التي تنظر إلى واقعها السياسي كدولة نظرة «دينية» تقوم على فكرة «الولي الفقيه».. لا القانون الدولي ولا ميثاق الأمم المتحدة، تعتبر من حقها الدفاع عن نفسها بشتى الأسلحة بما فيها السلاح النووي، وخاصةً أن هذا السلاح متوفر لباكستان والهند والصين، وطبعاً إسرائيل (التي اشترت منها إيران الخمينية سلاحاً في فضيحة «إيران – كونترا»). وإذا كانت مواقف الرئيس محمود أحمدي نجاد تعكس تفكير المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، فإن تراجع طهران عن مشروعها النووي غير وارد البتة.

ثم نصل إلى حقيقة مهمة ثانية هي أن زرع الغرب كيان إسرائيل في قلب المشرق العربي، وعجز العالمين العربي والإسلامي (بما فيه إيران) طوال حقبة الحرب الباردة عن التعامل بنجاعة مع قضية فلسطين في خضم الصراع بين الشرق والغرب، ترك في المنطقة مرارة مقيمة، ولّدت بمرور السنين مشاعر إحباط وقهر وحقد. وسرعان ما وجدت هذه المشاعر متنفسها في الحركات الدينية الأصولية بديلاً لليسار الثوري.. بمجرد سقوط «جدار برلين». وهنا أتيحت الفرصة أمام طهران «الولي الفقيه» لملء هذا الفراغ، فباشرت عملية اختراق ذكية ومدروسة من دون أن تلفت إليها الأنظار في بداية الأمر.

لكن التقارير السياسية والأمنية الأخيرة تؤكد أن أصابع طهران و«امتداداتها» تغطي رقعة واسعة جداً من العالم العربي. كما تشير إلى صلات وثيقة بينها وبين عدة تنظيمات أصوليّة سنيّة داخل العالم العربي (منها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين وبعض الفصائل في لبنان وسورية والسودان).. وقد تكون بينها أيضاً شراذم وجماعات من «القاعدة».

تحرير فلسطين و«تثوير» المنطقة هما عنوان الاختراق، وهما وحدهما طبعاً العنوانان الصالحان للتصدير، على اعتبار أن من شأن الخوض في جدل فقهي مذهبي علني ذر قرن الشقاق في الجبهة التي تجهد طهران في بنائها بصبر وأناة منذ بعض الوقت. ولكن الأخوة و«الجيران» في طهران ليسوا «أبناء البارحة».. بعكس بعض المصفّقين لهم داخل العالم العربي، وهم يدركون جيداً أن إزالة إسرائيل من الوجود قد لا تكون بالسهولة التي يحلم بها الملايين.

إلى ماذا يمكن أن تفضي حالة معقدة كهذه؟

حتى اللحظة، أثبتت «غزوة حماس» أن لطهران اليد العسكرية العليا في غزة. وأكّدت نكسة القوات العراقية في مواجهاتها مع قوات مقتدى الصدر أن جنوب العراق غدا جزءاً من الجبهة الإيرانية العريضة. وإذا كان الشرح سيطول في بحث الدور الإيراني المتنامي في كل من السودان واليمن، لا ننسى طبعاً سعي «حزب الله» في لبنان لإلغاء كل مقوّمات الدولة وتسلّحه بـ«انتصاره الإلهي» في صيف 2006 للإجهاز على ما تبقى منها وتهجير مَن صمد من شباب لبنان ومثقفيه وعقوله المتنورة الواعدة.

في هذه الأثناء تشكل دمشق «المحطة» الحاضنة والموزّعة لهذا الزخم الإيراني في المنطقة، بينما ترد تقارير عن مفاوضات «سرّية» بين مفاوضين سوريين وإسرائيليين يرأسهم الدبلوماسي المتقاعد آلون ليئيل.

بل في حين تزعم تل أبيب أنها متخوفة من إيران «نوويّة»، وتهدّد بأنها قد لا تترك لواشنطن مهمة وقف تطوّرها بهذا الاتجاه، بل قد تعمد لذلك بمفردها إذا اضطرت، نراها تتعمّد طمأنة دمشق ـ حليف طهران الإقليمي ـ إلى حرصها على نظامها. وكان لافتاً خلال الأسبوع الماضي مدى اهتمام السناتور آرلن سبكتر ـ رجل إسرائيل الأبرز في الحزب الجمهوري الأميركي ـ بمصير الرئيس السوري وعائلته في حال سارت قدماً قضية المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه.. إبان مناقشته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس.

تل أبيب التي تهدّد وتتوعّد «حزب الله» اللبناني، تؤكد أيضاً أنها لا تخطّط لحرب ضده. ويتسرّب عن ساستها وإعلامييها أنها ودمشق بانتظار نهاية فترة رئاسة جورج بوش لفتح حوار مع الرئيس الأميركي الجديد، لا يُستبعَد أن تشارك فيه إيران في مرحلة ما، قد يكون أشبه بـ«استدراج عروض» إقليمي.

ولكن لكي يكتمل «السيناريو» العبثي، تكرّر واشنطن من جانبها أنها لن تتساهل مع محور طهران – دمشق على حساب حلفائها، لكنها مع ذلك لا تفرض (ولن تفرض في سنة انتخابات رئاسية) على تل أبيب أي صيغة تريح الفلسطينيين وتقنعهم بأن الرهان على «سلام» محمود عباس أقل كلفة من الرهان على «نيران» حماس والجهاد الإسلامي!

بكلام آخر، واشنطن لن تسقط ذرائع مَن يزعمون أنهم خصومها.. ولن تنزع «ورقة التوت» الأخيرة التي يتستّر بها من أعلنوا الحرب على «المشروع الأميركي» في المنطقة!