أحسن القصص

TT

في ثقافتنا ليس هناك ما يمنعك من تناول طعامك بيدك ما دامت يدك نظيفة ونفسك عفيفة. لكن ثقافة الغرب تأبى ان تمتد اصابعك الى الطعام. ولعل هذا الخاطر هو الذي دفعني لقراءة كتاب يتناول تاريخ آداب المائدة في الغرب: دراسة مستفيضة تصل بالقارئ في النهاية الى ان كل ما يتعلق بالسلوك الحضاري لم يزد على كونه محاولات لترويض النزعات البدائية وكبح جماح العدوانية نحو الغير وتقليص العنف الى حد ادنى.

تقول المؤلفة ان شدة الجوع كانت تدفع الناس الى تخاطف الطعام والتسابق الى الاستئثار به مما ادى الى معارك غير مأمونة العاقبة. ومن هنا نمت بذرة ما يعرف اليوم بآداب المائدة. فما هي إلا وسائل وقائية لقطع الطريق على العدوان.

من تلك البذرة كبرت شجرة وتفرعت واصبحت هي الظل الظليل لما يعرف اليوم عن آداب المشاركة في طعام من ترتيب المائدة الى اختيار الاواني المستعملة وتزيين الموائد بالشموع والزهور. كلها مهارات تندرج تحت بند تعليم الفرد الهمجي ان يتمهل وان يلتزم بالنظام وان يتحلى بالصبر على الجوع.

كان السكين هو اول الادوات المستحدثة. فهو اداة لتقطيع لحوم الصيد قبل التهامه بدلا من تقطيع لحم منافس تسول له نفسه خطف اللحم او المشاركة في اكله.

بعد السكين جاءت الشوكة. بيد انها تأخرت في الوصول حتى بداية القرن الحادي عشر. وكان ذلك في مدينة البندقية الايطالية. فقد قدمتها سيدة من سيدات الطبقة الراقية لضيوفها فتسببت في موجة من الدهشة والاستياء. ومع ذلك عادت الشوكة الى الظهور وانتقلت من البندقية الى سائر المدن الايطالية. ومن ايطاليا انتقلت الى اسبانيا الى ان وصلت الى فرنسا. وحين وصلت الى الموائد الفرنسية قوبلت برفض تام واعتبرها الفرنسيون اسرافا في التكلف.

وكعادة الانجليز تمهلوا طويلا قبل تبني عادات جديدة مستوردة. فالشوكة لم تظهر على الموائد الانجليزية حتى القرن السابع عشر. وحين ظهرت على موائدهم صحبتها مبررات تقول بأنها وسيلة للحفاظ على نظافة الايدي اثناء تناول الطعام. ولعل اطرف ما يرد في الكتاب يختص بالسكاكين ذات الاطراف المدببة التي تشبه سن الرمح. هذا النوع استبدلت به سكاكين مستديرة الاطراف في نهاية القرن السابع عشر حين لاحظ الفرنسي ريشيليو ان الضيوف يستخدمون طرف السكين المدبب لتسليك الاسنان بعد الاكل. وخلص ايضا الى ان الطرف المدبب يثير المشاعر العدوانية وربما يوحي الضيف ان بامكانه غرس السكين في قلب جاره اذا احتد بينهما نقاش. وربما كانت تلك هي الفكرة وراء اعتبار التلويح بالشوكة والسكين اثناء الاكل عيبا كبيرا وتجاوزا لاداب المائدة في الاوساط الراقية. فمثل هذا السلوك يذكر بهمجية الاسلاف وميلهم للعنف. لم يبق إلا ان اذكر بما جاء في سورة يوسف عن امرأة العزيز وصويحباتها: «فلما سمعت بمكرهن ارسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً ان هذا إلا ملك كريمّ (سورة يوسف) 30 حين هبط الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي كان استخدام السكين معروفا عند العرب بينما انتظر الغرب ألف عام ليكتشف اهله هذا القدر من الصبر على الجوع والترفق بالخصم.