أميركا تستورد الدولار العربي وتحيِّده سياسياً

TT

منذ عامين، تلقيت عرضا من مصرفين فرنسيين بتقديم قروض لي، بلا شروط تذكر. كان استغرابي كبيراً. لم يسبق لي أن كنت من رجال المال والأعمال، لأغدو موضع هذه الثقة المصرفية في جيبي الضعيف.

بعد نشوب الأزمة المالية العالمية، أدركت السبب: أصيبت المصارف بتخمة السيولة. راحت تبحث عن أي مجال للاستثمار، بما في ذلك تقديم قروض سهلة لصغار المودعين من أمثالي. كانت النكبة العقارية الأميركية كبيرة. فقد عجز هؤلاء المقترضون عن السداد. فقدت المصارف السيولة. قُدرت خسائرها إلى الآن بتريليون دولار (ألف مليار).

أزمة القروض العقارية قفزت إلى المصارف، ثم انعكست على قطاعات الاقتصاد، لتشكل أقسى محنة منذ «كريزة» 1929، ولتوصل الاقتصاد الأميركي إلى الركود فعلا. الليبرالية الاقتصادية أشاعت منذ ثمانينات ثاتشر وريغان وملتون فريدمان نظرية الحرية الفالتة التي تترك لعوامل السوق وحدها التصرف في المال والاقتصاد، متحررة من أي تدخل رقابي. دهاقنة المال لم يقرأوا ماركس الذي عاش معظم حياته على قروض من صديقه أنجيلز. أميركا اليوم لا تبحث عن اشتراكية ماركس الرقابية، إنما عن حمَلة حقائب المال في العالم.

من هم هؤلاء الإنقاذيون المطلوب منهم تمويل الجمعيات المالية «الخيرية» التي تسمى بـ «المصارف»؟ إنهم ببساطة متناهية المستثمرون الجدد المتمثلون في «الصناديق الاستثمارية السيادية»، بالإضافة إلى الشركات الصينية التجارية والصناعية. أحسنت دول الخليج صنعا بإنشاء هذه الصناديق من فائض عوائد النفط (2 تريليون دولار)، بدلا من تجميدها كاحتياطي في كهوف المصارف المركزية الباردة.

أمامي لائحة بأسماء مديري هذه الصناديق. إنهم رجال تكنوقراط أذكياء ومحافظون حذرون جدا في الاستثمار والتمويل. هم يملكون الخبرة المالية المحلية، لكن خبرتهم في إدارة المال المصرفي على مستوى عالمي لا تعني أنهم سذّج من السهل اللعب عليهم، كما تظن بيوتات المال الأميركية المفلسة. أعتقد أن هذا الوعي المتوفر لرجال التكنوقراط الخليجيين وخبرائهم المساعدين لهم من عرب وأجانب، يجعلهم على مستوى مسؤولية إدارة صناديق تعتبر بمثابة ضمان وتأمين لمستقبل الأجيال الخليجية. نعم، هي أموال حكومية، لكنها أموال وطنية ملك للمجتمع أولا وأخيرا.

هذا النقص في الخبرة العالمية أتمنى أن يتم استدراكه من خلال إصرار الصناديق السياسية على جلوس ممثليها في مجالس إدارة المصارف والشركات التي تستثمر فيها. مع إنشاء فروع متخصصة في المقاولات وتنفيذ مشاريع التنمية في العالم النامي، كما تفعل الصين مثلا. الاتجاه الآن في المصارف العالمية هو للاستثمار في القطاع الزراعي الرابح. الفلاحون هم اليوم جنود المصارف، وليس العمال أصحاب الياقات البيضاء من الخبراء وموظفي المكاتب.

في حذرهم الشديد، قدم مديرو الصناديق قروضا لآجال طويلة للمصارف والمؤسسات المالية الأميركية. بلغت هذه القروض إلى الآن خمسين مليار دولار، وهو مبلغ زهيد بالقياس للأصول والأرصدة المتوفرة. غير أن الاتجاه العام لدى هذه الصناديق هو الاستثمار في آسيا والصين بالذات.

ما يمكن أن آخذه على هذه الصناديق هو غياب التنسيق والتخطيط بينها، باعتبارها كتلة مالية خليجية. من شأن الدراسات المشتركة تذليل المشاكل والعقبات التي تواجهها في أسواق المال الخارجية. أميركا أولى هذه المشاكل. أميركا تستورد بشراهة الدولار العربي النفطي. لكنها تريد تحييد دوره الاستراتيجي ونفوذه السياسي.

كان من البديهي أن تلجأ صناديق الاستثمار العربية إلى استخدام خبراء وشركات علاقات عامة. إدارة بوش «الصديقة» اعتبرت ذلك مقدمة لتشكيل مؤسسة ضغط عربية (لوبي) معترف بها، بدلا من الاعتماد على صداقات شخصية يجسدها سفراء وديبلوماسيون وساسة لهم علاقة مع مسؤولين أميركيين.

منذ العام الماضي، ألاحظ نشوء «أفكار» أوروبية/ أميركية عن ضرورة إلزام العرب بـ «مواثيق شرف» تقيّد المال العربي. في ترجمة ذلك، أعني أن أميركا وأوروبا لا تريد لممثلي الصناديق الحصول على مقاعد في مجالس الإدارة، أو الحصول على حق التصويت. الذريعة هي الخوف من الاتجاه نحو شراء قطاعات صناعية حساسة، أو اكتساب الخبرة المالية والمصرفية المعقدة، أو نقل تقنيات صناعية عالية المستوى إلى الدول الخليجية. مَن يقف وراء الشروط «التعجيزية»؟ لا أحد يقول في أميركا. لكن أستطيع أن أقول إن اللوبي اليهودي والإسرائيلي النافذ يقف وراء الحملة ضد الاستثمار العربي، خشية من أن يكون للمال العربي دور في تعديل انحياز أميركا الفاضح لإسرائيل.

الغريب أن في مقابل هذه المواثيق والشروط المقيدة للاستثمار العربي، ليست هناك ضمانات لحماية وتأمين هذه المساهمة العربية في استعادة استقرار أسواق المال الأميركية التي تعاني من سوء إدارة وانفلات من كل قيود رقابية، واعتبارات مهنية أخلاقية.

أعتقد أن الواجب كان يفرض على صناديق الاستثمار الإعلان عن نصوص اتفاقات القروض التي قدمتها وتقدمها للقطاع المالي الأميركي، كسبا لثقة حكوماتها ومجتمعاتها. الشفافية هنا مطلوبة بالتخلي عن التقليد العربي بالالتزام بالسرية المطلقة في الاستثمار وإدارة المال.

في إشكالية حماية الاستثمار العربي، أشير إلى أن أسهم أكبر مصرف في العالم (سيتي غروب) انخفضت بمعدل 38 بالمائة، منذ أن جمع 30 مليار دولار من صناديق استثمارية عربية ورجال مال وأعمال عرب. الأمل كبير في تحسن أسعار الأسهم والانتقال إلى الربح عندما يبدأ الاقتصاد الأميركي في الانتعاش، اعتبارا من الربع الأخير لعام 2008. ومن شأن هذا الانتعاش تحسين سعر الدولار.

إلى جانب خطر غياب ضمانات الحماية الاستثمارية، فالخطر الأميركي الثاني ماثل في ضعف الرقابة الحكومية على القطاع المالي والمصرفي. هذا الضعف تسبب في الانفلات والتهور في تقديم القروض العقارية، إدارة بوش في سياستها الليبرالية ساهمت في إضعاف الرقابة. المصارف المفلسة ما زالت متمسكة بالاكتفاء

بـ«رقابتها الذاتية» الرافضة لأي تدخل حكومي.

كأني بمهمة الحكومة الأميركية تعويم هذه المصارف بأموال دافع الضرائب الأميركي المسكين. كل ما فعلته الإدارة إلى الآن هو اقتراح بتفويض الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأميركي) بممارسة الرقابة. بن برنانكه حاكم المصرف يعترف بدخول الاقتصاد مرحلة الركود. هو يحمّل المصارف المسؤولية. يطالبها بممارسة شفافية أكبر في الإعلان عن عملياتها.

الشكوك كبيرة في مهارة برنانكه وأصدقائه الاقتصاديين في إدارة بوش، وقدرتهم على إدارة الأزمة وإنعاش الاقتصاد. الدهاء المالي للأمير الوليد بن طلال يقوم على أساس الشراء والاستثمار في المؤسسات التي تتعرض لمتاعب مالية، كما فعل عندما ساهم في «سيتي غروب». مجرد ذكر اسمه كاف لاستعادة ثقة المستثمرين. هل هذا السحر ينسحب أيضا على القوة المالية لصناديق الاستثمار العربية؟

أتمنى أن يفعل السحر فعله. لكن أعتقد أن الاقتصاد الأميركي لن يغادر غرفة الإنعاش إلا باستعادة ثقة الساكن الأميركي العاجز عن استرداد بيته المرهون، وإلا بعودة الثقة بين المصارف بتبادل قروض السيولة في ما بينها، وباستعادة ثقة المستثمرين فيها، وفي مقدمتهم العرب.