سياسة الخبز

TT

أتوقع أن أنصار التفسير الاقتصادي للتاريخ سيشعرون هذه الأيام بأنهم الأقدر على فهم ما يجري، وما سيجري، في المنطقة العربية الآن.

أحداث تظهر على السطح مدفوعة بمحركات ومطالب اقتصادية من الطراز الأول.

في مصر؛ دعوات للإضراب، واحتجاجات عارمة على ارتفاع الأسعار، خصوصا «رغيف العيش». الحكومة قلقة، والداخلية تحذر من العبث بالأمن تحت شعار الخبز، ورئيس الوزراء ينبه العاملين في القطاعات «الإستراتيجية» مثل الأطباء، إلى أنه لا يحق لهم الإضراب.

في لبنان، مظاهرات واحتجاجات سابقة على ارتفاع أسعار الوقود والسلع، وصراع على تجيير هذه الاحتجاجات المطلبية والعمالية في بورصة العراك السياسي بين الموالاة والمعارضة، لكن ـ وبسبب اختلاط جمهور الموالاة والمعارضة في النقابات نفسها ـ لم يستطع قادة المعارضة استخدام هذه الفورة الغاضبة وقوداً لتصعيد المعارضة السياسية برافعة السخط الاقتصادي.

في العراق؛ حرب من نوع آخر لدى العراقيين، غير حرب الميلشيات، هي حرب الخبز والوقود والدواء.

في الأردن؛ إحباط وحيرة من ارتفاع سعر البنزين الحاد في بلد يعتمد بالكامل على نفط الخارج، فيما يشبه الإعانات، مع قلة موارده.

وفي اليمن؛ يخطب علي عبد الله صالح في الجماهير محذراً ممن يريد استغلال أزمتهم المعيشية لصالح أهدافه السياسية في الحكم، ويتحدى معارضيه أن يفعلوا أفضل مما تفعله الحكومة في محاولة حل الأزمة، وبعد خطبته بأيام، تنفجر مظاهرات في جنوب اليمن تحت عنوان معيشي بسيط هو المطالبة بإعادة بعض العسكريين ممن أحيلوا للتقاعد إلى العمل، ثم تطور الأمر إلى احتجاج سياسي على الحكم.

وحتى في البلدان العربية الغنية، هناك نقد حاد لمظاهر الغلاء وارتفاع الأسعار، ففي بلد مثل السعودية، لا تكاد تخلو صحيفة يومية من مقال او تعليق ينتقد مظاهر الغلاء الحاد في السلع، ويلقي باللوم على الوزارات المعنية. وكاتب سعودي مثل عبد الله ناصر الفوزان، أصبح متخصصا في هذا النوع من المقالات النقدية التي ينشرها في صحيفة «الوطن» المحلية.

وبلغت الحدة النقدية في الصحافة السعودية قمتها مع أزمة الخبز التي تركزت في المنطقة الغربية من السعودية، وتنوعت الجهات التي ألقي عليها باللائمة في وجود أزمة خبز في بلد غني بثروته النفطية؛ الوزارة المعنية لامت الموزعين، وهناك حديث عن تحويل القمح إلى علف للمواشي بعد أزمة الشعير «المضروب» الذي قضى على بعض الماشية. الحكومة تقدم الحلول وتبحث عن المخارج وتتوعد من يعبث بـ«عيش الناس».

كل هذا شيء مفهوم، ومن العفوي أن يتذمر الناس من ارتفاع الأسعار أو فقدان السلع أو شحها، وعلى الجهة الخدمية التي تقصر أو تخل بواجبها أن تحاسب، هذا سلوك يجب أن يكون غير مثير لحنق الحكومات الناضجة، فقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق كما يقال. غير انه في مثل هذه الأجواء يختلط الحابل بالنابل، والحقيقي بالمزور، والعفوي بالمخطط له، والمعيشي بالسياسي، وحقيقة لا يلام الكائن المسيس في استغلال أي فرصة لصالح أجندته السياسية، فهذه شيمة السياسي في كل حين. والرد الحقيقي من قبل أي حكومة هو في حل الأزمات وليس في سجال المعارضين حول أزمة المعيشة. فيما يخص هذه الأزمة، وبعيدا عن الحديث السياسي الداخلي في كل بلد معني، يجب أن نتذكر ما قالته منظمة الغذاء والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة من أن أسعار المواد الغذائية المرتفعة باطراد تشكل تهديدا لملايين الاشخاص في البلدان الفقيرة. أسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 40% أخيرا، وهي نسبة غير مسبوقة، وقد لا تتمكن العديد من الدول من مسايرتها.

أزمة الجوع والغذاء هي أزمة عالمية حذرت من مغبتها كل المنظمات الدولية المعنية. وبعض المراقبين العالميين ألقى باللائمة على سياسات البنك الدولي التي طبقت في بلدان فقيرة أو نامية، خصوصا دول الكتلة الشرقية التي خرجت من نظام اقتصادي اشتراكي، الأمر الذي اعترف به تقرير للبنك الدولي نشر قبل فترة قريبة.

هذه الأزمة الغذائية يرجعها البعض إلى أسباب مناخية في الدول التي تصدر القمح والأرز، والبعض يرجعها إلى أسباب سياسية تتعلق بوجود الحروب الأهلية والنزاعات السياسية في تلك الدول، والبعض يرجعها إلى الانفجار السكاني العالمي، مع زيادة أسعار النفط؛ وبالتالي زيادة أسعار الوقود. ضع هذا كله خصوصا الزيادة السكانية للبشر على الأرض، ستجد نفسك أمام أزمة عالمية تهدد مستقبل لقمة العيش للبشر كلهم.

مثلا، وبحسب تقرير لمكتب مراجعة السكان، نشرته «بي.بي.سي»، فإن عدد سكان العالم سيصل إلى 9.3 مليار نسمة بحلول عام 2050 مقارنة بـ 6.3 مليار اليوم. وتقول المنظمة إن «نحو 99% من جميع الزيادات السكانية الحالية تحدث في الدول الفقيرة».

إذن هناك مستويات مقاربة متعددة للمشكلة المعيشية والغذائية اليوم، هناك أزمة عالمية في إمدادات الغذاء، حتى أن الهند وهي من عمالقة تصدير الأرز في العالم، قررت هذه السنة وقف إنتاجها من الأرز، باستثناء «البسمتي». هذا المستوى العالمي من الأزمة يحتاج إلى تظافر جهود الدول الغنية؛ وعلى رأسها أمريكا، مع الدول الفقيرة، بالإضافة للامم المتحدة ومنظماتها من اجل إيجاد حل. وهناك مستوى داخلي يخص كيفية تعامل الدول، كل على حدة، مع أزمته، لأن ظروف الدول تختلف، وهنا لا تصبح مكافحة الفساد والتلاعب بأرزاق الناس، شعارا يرفع للاستهلاك الإعلامي، بل هي واجب ضروري وعملي تحتمه الأزمة.

هنا نعود إلى ما بدأنا به من الإشارة إلى دور الاقتصاد في صناعة التاريخ وتطويره وتغييره، فشعارات الشفافية والمحاسبة والمراقبة، هي في ظاهرها شعارات سياسية تتعلق بوصفات للحكم الصالح، ولكنها ولدت من رحم الاقتصاد، مع انه لا يمكن تفسير كل حركة في التاريخ بالاقتصاد فقط، لوجود دوافع أخرى تسير الإنسان والمجتمع نحو الاحتجاج والمطالبة بالتغيير مثل الهوية والدين والاستقلال. لا ندري متى تنتهي هذه الأزمة المعيشية، ولا ما هي تفاعلاتها، ولا كيفية تعامل الحكومات معها، ولا طريقة المعارضة السياسية مع غضبة الناس العاديين من اجل معيشتهم، لكن ما يشعر به الإنسان هو أن هذه الأزمة، إذا استمرت، وهو ما يبدو، ستكون لها إفرازات سياسية على الأرض، خصوصا في مصر واليمن. وربما تكون مدخلا إلى تحقيق شعارات الشفافية والإدارة الرشيدة، وربما لا تكون وحينها ستحدث أشياء كثيرة، فالخبز رغم رقته وهشاشته، هو أقوى أسلحة التاريخ.

الجماهير العادية لا تحركها كليشيهات حركة مثل «كفاية» عن الديمقراطية والتوريث والتطبيع.. الخ بل الخبز والرواتب. وكما يشير خالد الخميسي في كتابه الممتع «تاكسي» الذي سجل فيه حواراته مع سائقي سيارات التاكسي المصرية، فإن احد هؤلاء السائقين أبدى تذمره من أزمة سير أمامه بسبب مظاهرة صغيرة نظمتها إحدى حركات المعارضة، مبديا سخريته من عبثيتها.. لكن ربما أن هذا السائق الآن، يقف في أحد طوابير الخبز، متحمِّساً للمشاركة في الإضراب.

بعض الأزمات يخرج منها المجتمع والدولة أقوى من قبل، وتصبح بمثابة المصل المضاد الذي ينقي الجسد من علله، وبعضها يضر الجسد أكثر وأكثر، فالأمر يتوقف على النية والإرادة والتنفيذ.. وما يقترحه التاريخ من مسارات نعلمها ولا نعلمها.