ممانعة

TT

استطاع النظام السوري على مدى عقود متتالية استخدام مصطلحات وتعابير لطالما دغدغت المشاعر العربية التي عانت من الهزائم المتلاحقة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي الذي مارس القضم التدريجي للاراضي الفلسطينية والسورية والاردنية والمصرية واللبنانية، فظنت «الجماهير» العربية أن هذه الأنظمة هي انظمة مواجهة فعلية وأنها تحمل لواء استعادة العزة والكرامة العربية الضائعة والمتكسرة. فإذا بخطابها السياسي وخياراتها المعلنة تأتي معاكسة بالمطلق لأهدافها المضمرة والمرجوة. فلنأخذ على سبيل المثال لا الحصر مصطلح الممانعة الذي ابتدعه النظام السوري وبشّر به لسنوات طويلة. كيف طبق هذا الشعار وما هي السياسات الممانعة التي اعتمدها في الملفات المختلفة؟

أ ـ سنة 1976، عقد النظام السوري صفقة كبرى مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل للدخول إلى لبنان بهدف ضرب الحركة الوطنية اللبنانية واليسار اللبناني بقيادة كمال جنبلاط وإقصاء الثورة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات. وبالفعل، حقق هذا النظام البند المتعلق به من الصفقة، وطالب واستحصل على ما أراده من سطوة وسيطرة مطلقة وشاملة على لبنان امتدت حتى العام 2005، ولا يزال يجهد لحماية ما تبقى له من نفوذ.

ب ـ بدءاً من العام 1982، سهّل النظام السوري مرور الدعم العسكري الايراني للحزب الناشئ حديثاً آنذاك، حزب الله، ووظف نفوذه المحلي داخل لبنان لتحقيق حصرية المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي في هذا الحزب وأقصى كل الأحزاب اللبنانية الأخرى التي كانت سباقة في إطلاق شرارة المقاومة محققاً بذلك هدفين: الأول: تعزيز علاقته مع النظام الاسلامي الايراني الصاعد بعد ثورة 1979، والثاني: تثبيت علاقته مع حزب الله بما يتيح له استخدام «ورقة» المقاومة حصراً من الجنوب اللبناني بما يتلاءم مع مصلحته دون أن ينفي ذلك حتماً أنها كانت حاجة لبنانية أكيدة ومحقة لمواجهة الاحتلال.

أ ـ كما حتّمت سياسة الممانعة اياها على النظام السوري ليس الامتناع عن القيام بأية أعمال مقاومة لتحرير جبهة الجولان المحتلة فحسب، بل إنه منع أعمال المقاومة. وطبعاً شتان ما بين الامتناع والمنع لأن الثاني هو فعل إرادي قام به النظام لاستهدافات سياسية محددة.

ب ـ ويمكن سحب المثال ذاته تقريباً من خلال رد الفعل السوري على الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على لبنان، أقله تلك التي حصلت بعد سنة 1990 وأكبرها كان في الأعوام 1993 و1996 و2006. ولم يشهد لبنان أي رد فعل سياسي أو عسكري سوري نصت عليه اتفاقيات «الإخوة والتعاون والتنسيق» ومن بينها اتفاقية الدفاع المشترك وكلها وقعت سنة 1991، لا بل كان الصمت السوري شديد البلاغة.

كما أن هذا النظام وقف سنة 1991 إلى جانب التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية لتحرير الكويت، فتحقق له بذلك انتقامه التاريخي من صدام حسين الذي لم يستطع النظام إيصاله إلى نهاياته من خلال دعمه لايران خلال حربها مع العراق. ومع تأكيد أحقية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي الغبي بالحد الأدنى، إلا أن هذا الهدف المعلن لم يكن سوى تغطية علنية لمحاولات سرية سورية للتقرب من الأميركيين والاسرائيليين، وقد حصل في مرحلة لاحقة بالفعل ما سمي الحوار السوري ـ الأميركي.

أ ـ النظام السوري، ودائماً في إطار سياسة الممانعة، لم يحرك ساكناً بعد تحليق طائرات حربية إسرائيلية فوق أحد القصور الرئاسية، ولم يتفوه بكلمة بعد ضربها لمفاعله الناشئ في شمال سورية. إنها السيادة الحقة.

ب ـ ولم يعد سراً بالطبع، الحوارات التي قام ويقوم بها النظام السوري مع الاحتلال الاسرائيلي مرة من خلال الوسيط التركي ومرة من خلال رجل الأعمال السوري وسوى ذلك.

ج ـ أخيراً، وليس آخراً، لقد وقع النظام السوري سنة 1998 مع تركيا اتفاقية أمنية وسياسية عرفت باتفاقية أضنة، وكلما زار مسؤول سوري أنقرة يتوجه إلى ضريح أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، وكأن لواء الاسكندرون «السليب» قدمه النظام هدية إلى تركيا. وهل نذكر بصفقة تسليم عبد الله أوجلان إلى تركيا، أو بمحادثات ماهر الأسد السرية مع الاسرائيليين في عمّان، أو بماذا وماذا؟

أخيراً، الم يكن لافتا حرص رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت على تطمين سورية أن المناورات العسكرية الجارية حالياً ليست موجهة ضدها؟ لعله رد الجميل على النفي العسكري السوري منذ أيام بعدم وجود استنفار عسكري سوري لمواجهة أي إعتداء إسرائيلي مرتقب! يا لها من ممانعة.