على هامش دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز.. حوار الأديان ضرورة تاريخية

TT

على عكس ما زعم المفكر اليميني الاميركي صموئيل هانتنغتون، فإن الصراع لن يكون بين الاسلام ككل والغرب ككل، وانما بين التيار المنفتح والتيار المنغلق داخل كل من الاسلام والغرب واكبر دليل على ذلك ما يحصل اليوم. ففي الغرب يهاجم اليمين المتطرف في الدنمارك وهولندا والنمسا وسواها الاسلام ونبيه، عن طريق الصور الكاريكاتورية أو الافلام السينمائية التافهة او التصريحات النارية فيرد عليه التيار المستنير وعلى أعلى المستويات ويتبرأ منه ومن افعاله. فرئيس النمسا رد على ممثلة اليمين المتطرف بقوة وكذَّب دعاواها الكاذبة عن الاسلام، وكذلك فعلت الحكومة الهولندية مع فيلم «الفتنة» الذي يستحق اسمه بالفعل والذي اخرجه جيرت فيلدرز النائب اليميني المتشدد في البرلمان الهولندي. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن تصريحات الحكومة الدنماركية المضادة للرسوم الكاريكاتورية السخيفة التي لا تسيء الى النبي لسبب بسيط: هو انها لا تستطيع ان ترتفع الى مستواه، ولا ان تصل الى قامته العالية وعظمته.

وبالتالي فالغرب منقسم على نفسه تجاه هذه الاستفزازات التي تصدر في كل الاحوال عن تيار يميني عنصري بغيض وحاقد على الاسلام منذ قرون وقرون. وليس الغرب كتلة صماء بكماء عمياء كما يحاول ان يوهمنا المتطرفون في الجهة العربية أو الاسلامية. الغرب ليس كتلة واحدة لحسن الحظ، بل فيه تيار متطرف يريد أن يشعل نار صدام الحضارات وتيار معتدل يريد اطفاءها، ونفس الشيء يمكن ان يقال عن جهتنا نحن. فالعالم العربي او الاسلامي. ليس كتلة واحدة أبداً. انه كالغرب، منقسم الى تيارين اساسيين: تيار عقلاني مستنير يحرص على المصلحة القومية والدينية العليا للعرب والمسلمين. وقد تجلى مؤخرا في تصريحات الملك عبد الله بن عبد العزيز الداعية الى الحوار بين الاديان وهي تصريحات من الاهمية بمكان. وقد جاءت في وقتها ونزلت على الجميع بردا وسلاما. كما يتجلى منذ سنوات طويلة في المبادرات القطرية السائرة في نفس الاتجاه والتي ستنظم عما قريب مؤتمرا كبيرا للحوار بين الاديان في الدوحة. وهناك ايضا مبادرات مشكورة تأتي من جهة تونس والمغرب.. الخ.

ولكن هناك تيارا متطرفا يمشي في الاتجاه المعاكس، ويمثله منظرو «القاعدة» وبخاصة ايمن الظواهري وبعض المتهورين أو المغامرين الآخرين بمستقبل العرب والمسلمين وهؤلاء اوصلونا الى داهية دهياء.. وهم يلتقون موضوعيا مع تيار اليمين المتطرف الغربي المذكور آنفا، والذي كلما هاجم الاسلام ونبيه اكثر، فرحوا اكثر وقويت مواقعهم اكثر. لماذا بسبب بسيط هو ان التطرف يدعم التطرف موضوعيا، ويشد من ازره. وهو قانون تأكدت صحته في احيان كثيرة. وبالتالي فإن اهمية مبادرة العاهل السعودي، هي انها تقطع الطريق على المتطرفين من كلتا الجهتين، كما انها تخفف من حدة التوتر الدولي الحاصل حاليا حول الاسلام عن طريق فتح باب الحوار على مصراعيه بين ممثلي اديان التوحيد الكبرى: الاسلام والمسيحية واليهودية.

كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد مشى في نفس الاتجاه اثناء القاء خطابه التاريخي امام مجلس الشورى السعودي بالرياض. فقد قال بالحرف الواحد: هنا في المملكة العربية السعودية سوف تحسم مسألة العلاقة بين الاسلام والحداثة، نظرا للأهمية الرمزية الكبرى التي يحتلها هذا البلد في انظار كل المسلمين. ثم قال: عندما التقى الملك عبد الله بالبابا فإن ذلك شكل حدثا تاريخيا. وهو اهم بالنسبة للسلام العالمي ومستقبل الحضارة من عشرات المؤتمرات واللقاءات الدولية. انه يعني لقاء مكة وبروما أو الاسلام بالمسيحية. كما انه يعني ان عهد الحروب بين الاديان قد ولى الى غير رجعة، وأن عهداً جديداً قد ابتدأ أو يوشك أن يبتدئ: ألا وهو تحالف كل الاديان مع بعضها بعضا لمحاربة الفساد الاخلاقي وتراجع القيم الروحية والانسانية وسيطرة النزعات المادية والانانية والشهوانية على الحضارة المعاصرة.

نلاحظ ان كلام الملك عبد الله والرئيس الفرنسي تطابق ويلتقي بكلام واحد من أكبر علماء اللاهوت المسيحيين في الغرب المعاصر: قصدت هانز كونغ صاحب الشعار الشهير: لا سلام في العالم بدون سلام بين الاديان.

فقد صرح أخيرا لإحدى المجلات الدينية الفرنسية قائلا: أوقفوا التعليقات الصاخبة والهجومية على الاسلام! كفوا عن التخويف منه والتحذير من عنفه ومخاطره المزعومة على الغرب، وعلى كل حضارتنا. انكم لا تخدمون القضية بذلك، وانما تخدمون عكسها: أقصد قضية الحرية والتعايش السلمي بين البشر.

هذا كلام رجل مسؤول ومفكر كبير وعالم دين لا يشق له غبار، وليس كلام مستهترين كذلك الرسام الذي يضع قنبلة في رأس شخص عربي، وهو يتوهم انه ينال بذلك من بني الاسلام!

لكأن مثل هذه السخافات يمكن ان تنال من الانبياء...

وبالتالي فلنكف نحن بدورنا عن شيطنة الغرب او اعتباره بمثابة الشيطان الاكبر، كما كان يقول الخميني وجماعته. فالغرب غربان أيها السادة لا غرب واحد، بل ان الجناح المستنير فيه والداعي الى الحوار مع المسلمين هو الذي يشكل الاغلبية. واما الجناح الآخر، أي اليمين المتطرف، فهو لا يمثل الا اقلية قليلة.

هل تريدون مثالا آخر على ذلك؟ اذن اقرأوا تصريحات المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني والتي ساهم في بلورتها البابا الحالي شخصيا. تقول بالحرف الواحد، وهي تمثل كل الكنيسة الكاثوليكية: الكنيسة تنظر ايضا باحترام وتقدير الى المسلمين الذي يعبدون الله الواحد الحي القيوم الرحمن الجبار خالق السماوات والارض، والذي تكلم الى البشر عن طريق انبيائه.

وحتى لو كانت قد حصلت عبر القرون بين المسيحيين والمسلمين عداوات كثيرة وحروب، فإن المجمع المقدس يدعوهم جميعا لنسيان هذا الماضي الأليم وللعمل بإخلاص من اجل التفاهم المتبادل، كما ويدعوهم جميعا لتحقيق العدالة الاجتماعية، ونشر القيم الاخلاقية، وكذلك لنشر السلام والحرية لمصلحة كل البشر.

ما أجمل هذا الكلام الذي وقع عليه بابا روما الحاليّ وكم هو حري بنا ان نرد على التحية بمثلها او بأحسن منها عندما يجتمع المؤتمر الاسلامي الكبير الذي يدعو اليه الملك عبد الله للحوار بين الاديان، لا اعرف.. لماذا لا نتجرأ على تحقيق الاجتهاد الفقهي الكبير كما تجرأ عليه مجمع الفاتيكان الثاني قبل اربعين سنة؟ لماذا لا نعترف بشرعية الاديان الاخرى مثلما اعترفت بنا وألغت بذلك لاهوتها القديم وفتاواها القروسطية ضدنا؟ لن نخرج من المأزق الكبير الذي نتخبط فيه حاليا الا بمثل هذه الخطوة الجريئة والشجاعة، خطوة غير مسبوقة.

ولكن هل نخون الاصول المؤسسة للعقيدة اذ نفعل ذلك كما توهم بعض المشايخ في المملكة؟ أبدا لا. ففي صريح القرآن الكريم ترد الآية التالية ثلاث مرات مع بعض التنويعات الطفيفة:

«ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» المائدة، الآية 69، والبقرة الآية 62 والحج الآية 17.